الانحرافات الكبرى - سعيد أيوب - الصفحة ٢٥٦
القومية كانت تحتفظ لهم بدين آبائهم بصورة من الصور. وعلى الرغم من أن الكثرة منهم كانوا يجرون في حياتهم على أصالة الحس ولا يعنون بما وراء الحس، إلا أن عصبيتهم القومية كانت تعتني بما وراء الحس اعتناء تشريفيا من غير أصالة.
وعندما بعث موسى عليه السلام لم يؤمن به إلا القلة إيمانا حقيقيا، أما الكثرة فكانوا يؤمنون به إيمانا قوميا عاموده الفقري إنجاز المصالح. وبعد خروج بني إسرائيل من مصر إلى سيناء، بوأهم الله المبوأ الطيب الذي يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من مسكن وهواء وماء. فسيناء صحراء جرداء لا شجر فيها ولا سكن والشمس فيها شديدة، ولكن يطيب لهم المكان، ساق الله إليهم الغمام ليظلهم ويقيهم وهج الشمس، وأرسل لهم سبحانه الرياح تحمل لهم المن والسلوى، وأمر سبحانه موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فلما ضربه انبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء، وبالجملة أصبحوا وهم مع رسول الله موسى عليه السلام أحرارا يملكون أنفسهم ويعملون بكل حرية وكرامة ويعبدون إله الخلق. ولكن شعب بني إسرائيل لم يشكر النعمة التي أنعمها الله عليه. فلقد كانت الكثرة إلى الكفر أسبق. والناقضون لعهد الله فيهم أكثر، فبعد أن ملوا من العيش في سيناء، طلب القوم من موسى عليه السلام سعة العيش، وقالوا له: لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض. فقال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ند خلها حتى يخرجوا منها. فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.
قال المفسرون: توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار.
والحق أن المراد مصر من الأمصار (3) فموسى عليه السلام حينما أراد الانتقال بهم إلى إحدى المدن وإلى مصر من الأمصار من بلاد الشام امتنعوا عليه (4)، وقالوا لا قدرة لنا على مقاومتهم وقتالهم فلما رغبهم بوعظه ونصائحه، وببيان آياته التي أجراها الله على يديه، وعلموا منه الجد في لزوم دخول تلك البلاد، وسكنى تلك الأرض المقدسة (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت

(3) ابن كثير: 102 / 1.
(4) كتاب الأنباء: ص 322.
(٢٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 249 250 251 253 255 256 257 258 259 260 261 ... » »»
الفهرست