أن المعرفة اضطرارية من البطلان الواضح، لأنها إن حملت على ظاهرها، من أنها ليست من صنع العبد ولو بالواسطة لما اختلف الناس فيها، ولما حصلت لبعض دون بعض، ويفضي القول بها إلى عدم صحة عقاب من لم تحصل له المعرفة بالله وبرسوله من سائر فرق الكفار والمشركين، ولما كان وقع لبيان الأدلة والآيات في القرآن الكريم التي يقصد منها إلفات الأنظار. ومن هنا أمكن أن نرجع الاختلاف في كثير منها إلى اختلاف لفظي، وذلك أن من يقول إنها كسبية يرى أنها لا بد من أن تحصل بواسطة نظر واستدلال أو قياس ونحوها، ويعني بذلك أنها كسبية من حيث اختيار السبب، وأما بعد النظر والاستدلال ووجود السبب فهي اضطرارية.
والذي يقول بأنها اضطرارية إنما يلحظها بعد وجود سببها ومنشئها، فإن المعرفة بعد النظر والاستدلال حاصلة لا محالة أسواء أراد الناظر أم لا، كما هو الشأن في العلم الحاصل من الحواس، فالذي يفتح عينه على شئ لا بد له أن يبصره أراد ذلك أم أبى، والعلم بالمبصر بعد فتح عينه اضطراري ليس فيه للعبد اختيار. نعم هو مختار من حيث أنه أوجد سببه ومقدمته.
وعلى هذا كان ما ذهب إليه هشام أقرب إلى واقع المعرفة، وأنها اضطرارية، تنشأ بمقتضى ما توجبه الخلقة، وهي لا تحصل ولا تقع إلا بعد النظر والاستدلال مثل الأسباب التوليدية التي تقتضي وجود المسببات من دون دخل قصد العبد فيها، وإن كان له صنع في نفس الأسباب.