المدينة فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به، فنزلوا في موضع سوق بني قينقاع، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا إلى دينهم، فكانوا أول من سكن موضع المدينة. ويذكر أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم.
وروى أبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بختنصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم منعوتا في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل، ولما خرجوا من أرض الشام كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب فينزل بها طائفة منهم يرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه حتى نزل طائفة من بني هارون ممن حمل التوراة إلى يثرب، فمات أولئك الاباء وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحثون أبناءهم على اتباعه، فأدركه من أدركه من أبنائهم، فكفروا به وهم يعرفونه لحسدهم الأنصار حيث سبقوهم إليه.
وروى الزبير بن بكار عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي وغيره من أهل المدينة قالوا:
(كان بالمدينة في سالف الزمان قوم يقال لهم: صعل وفالج، فغزاهم داود النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ منهم مائة ألف عذراء، قالوا: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا. ولم تزل اليهود ظاهرين على المدينة حتى كان سيل العرم. قال المفسرون: كانت أرض سبأ المعنية بقوله تعالى: (بلدة طيبة ورب غفور) (سبأ 15) أخصب بلاد الله لم تكن سبخة وقيل: لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب. ولا حية، ويمر الغريب بواديهم وفي ثيابه القمل فيموت، وتخرج المرأة وعلى رأسها مكتلها فتعمل بمغزلها وتسير بين ذلك الشجر فيمتلئ مما يتساقط من الثمر، وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد وكذلك عرضها، وأهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة. وكانوا كما قص الله تعالى من خبرهم بقوله: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) (سبأ 18) أي يرى بعضها من بعض لتقاربها فكانوا آمنين في بلادهم، تخرج المرأة لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام. فبطروا النعمة (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) (سبأ: 19)، أي بمفاوز بينهم وبين الشام يركبون فيها الرواحل، فعجل الله لهم الإجابة كما قال تعالى (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) (سبأ 19).
(وكانوا يقتتلون على ماء واديهم فأمرت بلقيس بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من