وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم). وروى ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ). وروى ابن أبي خيثمة رضي الله عنه قال: (شهدت يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ).
فلم يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار إلا قالوا: (هلم يا رسول الله إلى العز والمنعة والثروة). فيقول لهم خيرا ويدعوا أو يقول: (إنها مأمورة خلوا سبيلها)، فمر ببني سالم فقام إليه عتبان - بكسر العين المهملة - ابن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان، وهو آخذ بزمام راحلته، فقال: (يا رسول الله انزل فينا فإن فينا العدد والعشيرة والحلقة، ونحن أصحاب الفضاء والحدائق والدرك، يا رسول الله قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا فليجأ إلينا فنقول له: (قوقل حيث شئت). فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) (1)، فقام إليه عبادة بن الصامت، وعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان، فجعلا يقولان: (يا رسول الله انزل فينا)، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بارك الله عليكم إنها مأمورة).
فلما أتى مسجد بني سالم وهو المسجد الذي في الوادي: وادي رانوناء، أدركته الجمعة هناك فصلاها فيه وكانت أول جمعة صلاها في المدينة، وقيل إنه كان يصلي الجمعة بمسجد قباء، وعند ابن سعد أنه صلى معه الجمعة مائة نفس، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمين الطريق (حتى جاء بنو الحبلى)، فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي (بن سلول)، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسها فقال: اذهب إلى الذين دعوك فأنزل عليهم. فقال سعد بن عبادة: (لا تجد يا رسول الله في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك ولكن هذا داري، ذكره موسى بن عقبة ورزين. قال السيد: (الذي في الصحيح ذكر سعد بن عبادة لذلك في قصة عيادته صلى الله عليه وسلم له من مرض بعد سكناه بالمدينة). قلت: ويحتمل أن سعدا قال ذلك مرتين، والله أعلم.
فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني ساعدة فقال له سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبو دجانة: (هلم يا رسول الله إلى العز والثروة والقوة والجلد)، وسعد يقول: (يا رسول الله ليس من قومي رجل أكثر عذقا ولا فم بئر مني مع الثروة والجلد والعدد فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ثابت خل سبيلها فإنها مأمورة). فمضى واعترضه سعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، وبشير بن سعد، فقالوا: (يا رسول الله لا تجاوزنا فإنا أهل عدد وثروة وحلقة)، قال: (بارك الله