وقال الحافظ رحمه الله تعالى: فإن قيل: إذا كان الرمي بها غلظ وشدد بسبب نزول الوحي، فهلا انقطع بانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نشاهدها الآن يرمي بها؟.
فالجواب: يؤخذ من حديث الزهري المتقدم، ففيه عند مسلم قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا ترمي لموت أحد ولا حياته. ولكن ربنا إذا قضى أمرا أخبر أهل السماوات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون به إلى أوليائهم (1).
فيؤخذ من ذلك أن سبب التغليظ والحفظ لم ينقطع لما يتجدد من الحوادث التي تلقى بأمره إلى الملائكة، وأن الشياطين مع شدة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث لم ينقطع طمعهم من استراق السمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بما بعده؟ وقد قال عمر لغيلان لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق من السمع سمعت بأنك ستموت فألقت إليك ذلك الحديث. رواه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم للسمع استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقصدون استماع الشئ مما يحدث فلا يصلون إلى ذلك إلا أن يخطف أحدهم بخفة حركته خطفة فيتبعه الشهاب فإن (2) أصابه قبل أن يلقيها لأصحابه مات وإلا سمعوها وتداولوها.
الرابع: هل كانت الشياطين تقذف بالشهب قبل المبعث أم حدث القذف بها بعده؟.
اختلف العلماء رضي الله تعالى عنهم في ذلك على قولين:
نقل أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره عن الأكثرين الأول. وبه جزم السهيلي والشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى في أماليه وتلميذه الشيخ أبو شامة في شرح الشقراطيسية وغيرهم وصححه غير واحد واحتجوا بقوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب) [الصافات 6: 8] وبقوله تبارك وتعالى: (وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استراق السمع فأتبعه شهاب مبين) [الحجر 17، 18].
قال الزركشي في شرح البردة: فهذه الآيات تدل على وجود الرجم قبل المبعث، لأنها خلقت لذلك: وكذا قوله تعالى (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) [الجن 8] وهذا إخبار عن الجن أنه كان الرجم موجودا لكنه ليس يستأصل وأنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت.