والسكينة والوقار. وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها - أو بعضها - غيره لأصبح مندهشا أو طائش العقل، ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح واجما - أي ساكنا - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم. فقال له: هل من خبر؟ فقال نعم! فقال: وما هو؟ فقال إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس. قال إلى بيت المقدس؟ قال نعم! قال أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به؟ قال نعم فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم.
فقال أبو جهل: هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم فقال أخبر قومك بما أخبرتني به، فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيبا له واستبعادا لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا. فقال: إنكم تكذبون عليه فقالوا والله إنه ليقوله.
فقال: إن كان قاله فلقد صدق. ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله مشركي قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به. وفي الصحيح: أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال: فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشئ، فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم. فقال: أما الصفة فقد أصاب (1).
وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه مائهم، فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه. كما قال الله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [الاسراء: 60] أي اختبارا لهم وامتحانا. قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من الاسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك. ولهذا قال فقال:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه) [الاسراء: 1] والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدل على أنه بالروح والجسد والعبد عبارة عنهما. وأيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له إذ ليس في ذلك