جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض وهو الذي يقول الله تعالى: (لقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى) أي ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر إليه.
وهذا هو الثبات العظيم والأدب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.
والأولى هي قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الاعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) وكان ذلك بالأبطح، تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم. فأما قول شريك عن أنس في حديث الاسراء ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم. وإن كان محفوظا فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شئ آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم. وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة إلى خمس. وقال هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها، فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ، وأئمة السنة كالمطبقين على هذا، واخلفوا في الرؤية فقال بعضهم رآه بفؤاده مرتين، قاله ابن عباس وطائفة، وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد، وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين وأختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين. وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه. وقالت طائفة لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم. قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: " نور أنى أراه " وفي رواية " رأيت نورا ". قالوا ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روى في بعض الكتب الإلهية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم: ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه، ولهذا كان كلما مر على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذاك للسلام عليه - هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية. ومما يدل على ذلك أنه قال فلما حانت الصلاة: أممتهم. ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز وجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الامام الأعظم يقدم في الإمامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم، ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو في غاية الثبات