يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كلما كان فيها من عهد وميثاق. ويقال كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيه إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم، وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب. فقال أبو طالب: لا والثواقب (1) ما كذبني فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم، أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعله (2) أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها. فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعا إليهم فوضعوها بينهم. وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم. فقالوا أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف (3)، إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - إن الله برئ من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هوله فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم.
فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم. قالوا: قد رضينا بالذي تقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم، والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعلى المسلمين] (4) والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه. فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فإنا