صفا العيش في بغداد واخضر عوده، وعيش سواها غير خفض ولا غض تطول بها الأعمار، إن غذاءها مرئ، وبعض الأرض أمرأ من بعض قضى ربها أن لا يموت خليفة بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي تنام بها عين الغريب، ولا ترى غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض فإن جزيت بغداد منهم بقرضها، فما أسلفت إلا الجميل من القرض وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى، فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حاج، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بماسبذان بموضع يقال له الرذ، والهادي ابنه مات بعيساباد قرية أو محلة بالجانب الشرقي من بغداد، والرشيد مات بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصيصة بالشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرا، ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج، وتعطلت مدينة المنصور منهم.
وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الاسلام ومجمع الرافدين وغرة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فن، وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزجاج يقول:
بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الاسلام، فإن الدولة النبوية والخلافة الاسلامية بها عششتا وفرختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإن هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإن نسيمها أرق من كل نسيم، وهي من الاقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الازمان ومنزل الخلفاء في دولة الاسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصها وتنبه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذاما لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شئ من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي:
سافرت أبغي لبغداد وساكنها مثلا، قد اخترت شيئا دونه الياس هيهات بغداد، والدنيا بأجمعها عندي، وسكان بغداد هم الناس وقال آخر:
بغداد يا دار الملوك ومجتنى صنوف المنى، يا مستقر المنابر