وإنا مورثون، كما ورثنا عن الآباء إن متنا، بنينا وقال الأصمعي: سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة. وقال أبو حاتم: ومن العجائب، وهو مما أكرم الله به الاسلام، أن النخل لا يوجد إلا في بلاد الاسلام البتة مع أن بلاد الهند والحبش والنوبة بلاد حارة خليقة بوجود النخل فيها، وقال ابن أبي عيينة يتشوق البصرة:
فإن أشك من ليلي بجرجان طوله، فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر فيا نفس قد بدلت بؤسا بنعمة، ويا عين قد بدلت من قرة عبر ويا حبذاك السائلي فيم فكرتي وهمي، ألا في البصرة الهم والفكر فيا حبذا ظهر الحزيز وبطنه، ويا حسن واديه، إذا ماؤه زخر ويا حبذا نهر الأبلة منظرا، إذا مد في إبانه الماء أو جزر ويا حسن تلك الجاريات، إذا غدت مع الماء تجري مصعدات وتنحدر فيا ندمي إذ ليس تغني ندامتي!
ويا حذري إذ ليس ينفعني الحذر!
وقائلة: ماذا نبا بك عنهم؟
فقلت لها: لا علم لي، فاسألي القدر وقال الجاحظ: بالبصرة ثلاث أعجوبات ليست في غيرها من البلدان، منها: أن عدد المد والجزر في جميع الدهر شئ واحد فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتد عند استغنائهم عنه، ثم لا يبطئ عنها إلا بمقدار هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها غطسا ولا غرقا ولا يغبطها ظمأ ولا عطشا، يجئ على حساب معلوم وتدبير منظوم وحدود ثابتة وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه فلا يخفى على أهل الغلات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة ومفخر وأحدوثة، لا يخافون المحل ولا يخشون الحطمة، قلت أنا: كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلا من شاهد الجزر والمد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى البصرة ثم إلى كيش ذاهبا وراجعا، ويحتاج إلى بيان يعرفه من لم يشاهده، وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهرا عظيما يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب فهذا يسمونه جزرا، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدا، يفعل ذلك في كل يوم وليلة مرتين، فإذا جزر نقص نقصانا كثيرا بينا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى وأكثر، وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر، ووسطه أكثر من سائره، وذاك أنه إذا انتهى في أول الشهر إلى غايته في الزيادة وسقى المواضع العالية والأراضي القاصية أخذ يمد كل يوم وليلة أنقص من اليوم الذي قبله، وينتهي غاية نقص زيادته في آخر يوم من الأسبوع الأول من الشهر، ثم يمد في كل يوم أكثر من مده في اليوم الذي قبله حتى ينتهي غاية زيادة مده في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثم في الزيادة في آخر الشهر هكذا أبدا لا يختلف ولا يخل بهذا القانون ولا يتغير عن هذا الاستمرار، قال الجاحظ: والأعجوبة الثانية ادعاء أهل أنطاكية وأهل حمص وجميع بلاد الفراعنة