لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم في زمانه بصيغة مفردة خاصة به «إنا نراك» تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارها منه عليه السلام «من المحسنين» من الذين يجيدون عبارة الرؤيا لما إياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤولها له تأويلا حسنا أو من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أو من المحسنين إلى أهل السجن أي فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرا على ذلك روى أنه عليه السلام كان إذا مرض منهم رجل قام عليه وإذا ضاق مكانه أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن قتادة رضى الله عنه كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فقالوا بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى فقال أنا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي أراني في بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتهما وعصرتها في كأس الملك وسقيته وقال الخباز إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة إذا سباع الطير تنهس منها «قال لا يأتيكما طعام ترزقانه» في مقامكما هذا حسب عادتكما المطردة «إلا نبأتكما بتأويله» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ما هيته وكيفيته وسائر أحواله «قبل أن يأتيكما» وإطلاق التأويل عليه إما بطريق الاستعارة فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنظر إلى ما رئى في المنام وشبيه له وإما بطريق المشاكلة حسبما وقع في عبارتهما من قولهما نبئنا بتأويله ولا يبعد أن يراد بالتأويل الشيء الآئل لا المآل فإنه في الأصل جعل شيء آئلا إلى شيء آخر فكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول فالمعنى إلا نبأتكما بما يؤول إليه من الكلام والخبر المطابق للواقع وكان عليه السلام يقول لهما اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت فيجدنه كذلك ومراده عليه السلام بذلك بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها وإنما تخصيص الطعام بالذكر لكونه عريقا في ذلك بحسب الحال مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤييين المتعلقتين بالشراب والطعام وقد جعل الضمير لما قصا من الرؤييين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما علي قبل أن يأتيكما ذلك الطعام الموقت مرادا به الإخبار بالاستعجال في التنبئة وأنت خبير بأن النظم الكريم ظاهر في تعدد إتيان الطعام والإخبار بالتأويل وتجددهما وأن المقام مقام إظهار فضله في فنون العلوم بحيث يدخل في ذلك تأويل رؤياهما دخولا أوليا وإنما لم يكتف عليه السلام بمجرد تأويل رؤياهما مع أن فيه دلالة على فضله لأنهما لما نعتاه عليه السلام بالانتظام في سمط المحسنين وإنهما قد علما ذلك حيث قالا إنا نراك
(٢٧٦)