فأخذتهم حينئذ الصاعقة، فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير، وقال قتادة: ماتوا،
فالآية الكريمة تقول: لقد وعى موسى - عليه السلام - لمناجاتنا، ورفعتناه إلى هذا المستوى و اتصل بالأفق الأعلى، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا، و شهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله بأقوى الأدلة و البراهين، و أنزله هذه المنزلة، و وقف في ساحة جلاله و حظائر قدسه و مساقط أنوار جماله و ذاق حلاوة خطابه.
أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس، ليجمع بين حلاوة الكلام و جمال الرؤية، و يؤيد أن الحامل لموسى - عليه السلام - على طلب الرؤية عوامل الشوق ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: " جاء موسى - عليه السلام - و معه السبعون رجلا، و صعد موسى الجبل، و بقى السبعون في أسفل الجبل، فكلم الله موسى، و كتب له في الألواح كتابا، و قربه نجيا، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال: (رب أرني أنظر إليك)، نعم طلبها بعامل الشوق، و قال: (رب أرني أنظر إليك)، و لم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف، حيث جعل النظر مسببا عن الرؤية، و الحال أن النظر تقليب الحدقة نحو الشئ التماسا لرؤيته، فهي متأخرة عنها، إذ الغرض (رب أرني أنظر إليك): مكني من رؤيتك، فأنظر إليك، و أراك، ففي الكلام ذكر الملزوم و إرادة اللازم. نعم أقدم موسى على طلب النظر إلى الذات الأقدس، و انتظر ما يكون من أمر الله، و قد وقع عليه عمود من الغمام، و تغشى الجبل جلال الرب و سمع النطق الكريم (لن تراني) عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة الرأس، و لو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى واصطفاء الله له، لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من مطالعة الذات الأقدس، بل المتبادر إلى الذهن " لن تقوى على رؤيتي و أنت على ما أنت عليه، لتوقفها على استعداد في الرائي، و لم يوجد في موسى - عليه السلام - وقت الطلب يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في " نوادر الأصول " عن ابن عباس " تلا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم هذه الآية فقال: قال الله تعالى: " يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات و لا رطب إلا تفرق و إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، و لا تبلى أجسامهم ".
كذلك يدل على أن التأييد المستفاد من قوله تعالى: (لن تراني) إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال، يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، و فيه يقول: " يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى:
رب أن أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا " و قد نبه جل شأنه بقوله: (لن تراني) على وجود المانع، و هو الضعف عن تحملها، حيث أراه ضعف من هو أقوى منه وتفتته عندما تجلى عليه الرب و غشيه ذو الجلال و الإكرام.
فكان الجبل و تماسكه و عاد الجبل متقوص الأركان متداخل الأجزاء سقيم القوام، و كان موسى فاقد الحياة، لطلبه هذه المرئية من الانكشاف، وهو باق على حاله.
أفاق موسى و استرد حياته، و قال: (سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين) [الأعراف: 143] أنزهك من أن أسألك شيئا بغير إذنك تبت عن الإقدام و أنا أول المؤمنين بأن لا يراك أحد في هذه النشأة، و ليس كما يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان، فكان موسى يعلم امتناعها و قد طلبها و هي ممتنعة. بل تاب من طلب الرؤية بغير إذن، و كيف لا يتوب و هو الرب صاحب الجبروت، وهو موسى المصطفى الكليم.
و قد قيل قديما: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) - إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في غيبة عن أدلة الجواز، لكن دفعتهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب، قد يأتيها الخصم بمنع إمكان المطلوب، لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع، فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقيلة و العقلية،