على أن هناك أمرا آخر وهو أن القرآن كتاب بيان واحتجاج يحتج على المؤالف والمخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق والحقيقة بالتشكيك والاعتراض، ويبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف والحكم الواقعة في الملل والأديان السابقة وما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى والملائكة والجن وقديسي البشر وما وقع في العهدين من أخبار الأنبياء وما بثوه من معارف المبدء والمعاد، إلى ما بينه القرآن في ذلك.
وهذا النوع من الاحتجاج والبيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم ويرد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسائلهم تدريجا، ويورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شئ وحينا بعد حين.
وإلى هذا يشير قوله تعالى: " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " - والمثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحق أو أساؤا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الأحسن يرده إلى مستواه ويقومه.
فتبين بما تقدم أن قوله: " كذلك لنثبت به فؤادك - إلى قوله - وأحسن تفسيرا " جواب عن قولهم: " لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " بوجهين:
أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي.
وثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس وهو بيان الحق فيما يوردون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المثل والوصف الباطل، والتفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه.
ويلحق بهذا الجواب قوله تلوا: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " فهو كالمتمم للجواب على ما سيجئ بيانه.
تبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد وهو الجواب عما