فحسب وبين أن يلقيها إليه وعنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء وهو يعالجه فيطابق بين ما يقول وما يفعل.
ومن هنا يظهر أن القاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة وحضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه وتربيته أثبت في النفس وأوقع في القلب وأشد استقرارا وأكمل رسوخا في الذهن وخاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول وتتهيأ للاذعان إذا أحست بالحاجة.
ثم إن المعارف التي تتضمنها الدعوة الاسلامية الناطق بها القرآن إنما هي شرائع وأحكام عملية وقوانين فردية واجتماعية تسعد الحياة الانسانية مبنية على الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الإلهية التي تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد انتهي بالتركيب إليها ثم إلى الأخلاق والاحكام العملية.
فأحسن التعليم وأكمل التربية أن تلقي هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق والخلق الفاضل والحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار والاتعاظ بين قصص الماضين وعاقبة أمر المسرفين وعتو الطاغين والمستكبرين.
وهذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، وهذا هو المراد بقوله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك " والله أعلم.
نعم يبقى عليه شئ وهو أن تفرق أجزاء التعليم وإلقاءها إلى المتعلم على التمهل والتؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق وسقوط الهمة والعزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمداد للذهن وتهيئة للفهم على التفقه والضبط لا يحصل بدونه البتة.
وقد أجاب تعالى عنه بقوله: " ورتلناه ترتيلا " فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض ونزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط ولا نقطع آثار الابعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور وآيات نازلة بعضها أثر بعض مترتبة مرتلة.