تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٢ - الصفحة ٦٩
وعلى تقدير ان يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله رب اجعل الخ تقديره رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا وقد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه وفي الأخرى الموصوف اختصارا.
والمراد بالأمن الذي سأله عليه السلام الامن التشريعي دون التكويني كما تقدم في تفسير آية البقرة فهو يسأل ربه ان يشرع لأرض مكة حكم الحرمة والامن وهو على خلاف ما ربما يتوهم من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده فانا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم عليه السلام باذن ربه أعني حكم الحرمة والامن وأمعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق وما أحاط به من حرم الله الآمن وقد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إلى أهلها وإلى سائر أهل الحق ممن يحن إليهم ويتعلق قلبه بهم وقد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا وما لم يضبط أكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده.
قوله تعالى: " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس إلى قوله غفور رحيم " يقال جنبه واجنبه أي ابعده وسؤاله عليه السلام أن يجنبه الله ويبعده وبنيه من عبادة الأصنام لواذ والتجاء إليه تعالى من الاضلال الذي نسبه إليهن في قوله رب انهن اضللن الخ.
ومن المعلوم ان هذا الابعاد والاجناب منه تعالى كيفما كان وأيا ما كان تصرف ما وتأثير منه تعالى في عبده بنحو غير أنه ليس بنحو يؤدى إلى الالجاء والاضطرار ولا ينجر إلى القهر والاجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.
فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " الآية ان كل خير من فعل أو ترك فإنه منسوب إليه تعالى اولا ثم إلى العبد ثانيا بخلاف الشر من فعل أو ترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء ولو نسب إليه تعالى فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة وقد أوضحنا ذلك.
فالاجتناب من عبادة الأصنام انما يتحقق عن اجناب من الله رحمة منه لعبده وعناية وليس في الحقيقة الا أمرا تلبس واتصف به العبد غير أنه انما يملكه بتمليك
(٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 ... » »»
الفهرست