وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) قال الراغب: العيث والعثى يتقاربان نحو جذب وجبذ إلا ان العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا والعثى فيما يدرك حكما يقال: عثى يعثى عثيا، وعلى هذا (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) وعثا يعثو عثوا. انتهى.
وعلى هذا فقوله: (مفسدين) حال من ضمير (لا تعثوا) لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا.
والجملة أعني قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) نهى مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أي ظلم مالى أو جاهي أو عرضى لكن لا يبعد ان يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريا للنهي السابق فيكون نهيا تأكيديا عن التطفيف ونقص المكيال والميزان لأنه من الفساد في الأرض.
بيان ذلك: ان الاجتماع المدني الدائر بين افراد النوع الانساني مبنى على المبادلة حقيقة فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من افراد النوع إلا وفيه إعطاء واخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شؤون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه، ويدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا وهو المعاملة والمبادلة.
ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية وخاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال أو يوزن فإن ذلك من أقدم ما تنبه الانسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه.
فالمعاملات المالية وخاصة البيع والشرى من أركان حياة الانسان الاجتماعية يقدر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، وما يجب عليه ان يبذله في حذائه من الثمن ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير والتدبير.
فإذا خانه معامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره وأبطل تقديره، واختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر وحسن التدبير في حياته ويتخبط في مسيرها خبط العشواء وهو الفساد.
وإذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم ولم يلبثوا دون ان يسلبوا