وجوده على حد ما يهدى سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الذي يبعثها إليه نظام الكون والجهازات التي جهز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميز خيره من شره وسعادته من شقائه كما قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) الشمس: 10.
يهديه بواجب عنايته إلى أصول وقوانين اعتقادية وعملية يتم له بتطبيق شؤون حياته عليها كماله وسعاته فإن العناية الإلهية بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينية المحضة.
ولا يكفي في ذلك ما جهز به الانسان من العقل - وهو ههنا العملي منه - فإن العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن يفعل شئ من القوى الفعالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أن المتخلفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلهم عقلاء ممتعون بمتاع العقل مجهزون به.
فظهر أن هناك طريقا آخر لتعليم الانسان شريعة الحق ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكر والتعقل وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيوية والأخروية.
فإن قلت: الامر سواء فإن شرع النبوة لم يأت بأزيد مما لو كان العقل لاتى به فان العالم الانساني لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر الوحي أن يدير المجتمع الانساني ويركبه صراط الحق فما هي الحاجة إليه؟
قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أن العناية الإلهية من واجبها ان تهدى المجتمع الانساني إلى تعاليم تسعده وتكمله لو عمل بها وهى الهداية بالوحي ولا يكفي فيها العقل، وجهة ان الواقع في الخارج والمتحقق بالفعل ما هو؟ وانما نبحث في المقام من الجهة الأولى دون الثانية، ولا يضر بها ان هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلا قليلا. وذلك كما أن العناية الإلهية تهدى أنواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر افراد كل نوع دون الوصول