بقوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21 أن لكل شئ عنده وجودا وسيعا غير مقدر في خزائنه، وإنما يلحقه الاقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلا فللعالم الانساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه النشأة.
وأثبت بقوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، وقوله: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50 وما يشابههما من الآيات أن هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء ومنها الانسان هو أمر من الله يفيضه على الشئ، ويلقيه إليه بكلمة " كن " إفاضة دفعية وإلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الأشياء وجهان وجه إلى الدنيا وحكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجا، ومن العدم إلى الوجود شيئا فشيئا، ويظهر ناقصا ثم لا يزال يتكامل حتى يفنى ويرجع إلى ربه، ووجه إلى الله سبحانه وهي بحسب هذا الوجه أمور تدريجية وكل ما لها فهو لها في أول وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل.
وهذا الوجه غير الوجه السابق وإن كانا وجهين لشئ واحد، وحكمه غير حكمه وإن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة، وقد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح وسيجئ إن شاء الله استيفاء الكلام في شرحه.
ومقتضى هذه الآيات أن للعالم الانساني على ما له من السعة وجودا جميعا عند الله سبحانه، وهو الذي يلي جهته تعالى ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ولا يغيبون فيه عن ربهم ولا هو يغيب عنهم، وكيف يغيب فعل عن فاعله أو ينقطع صنع عن صانعه، وهذا هو الذي يسميه الله سبحانه بالملكوت، و يقول:
" وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " الانعام 75، ويشير إليه بقوله: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين " التكاثر: 7.
وأما هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الانساني وهو الذي يفرق بين الآحاد، ويشتت الأحوال والأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان، وتطبيقها على مر الليالي والأيام ويحجب الانسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية