تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٨ - الصفحة ٣١٧
تحصل في ظرفنا هذا بأسبابها المعدة لها كالعقل فأي حاجة إلى تكوينه تكوينا آخر في سالف من الزمان لاتمام الحجة والحجة تامة دونه؟ وما ذا يغني ذلك.
على أن هذا العقل الذي لا تتم حجة ولا ينفع إشهاد ولا يصح أخذ ميثاق بدونه حتى في عالم الذر المفروض هو العقل العملي الذي لا يحصل للانسان إلا في هذا الظرف الذي يعيش فيه عيشة اجتماعية فتتكرر عليه حوادث الخير والشر، وتهيج عواطفه وإحساساته الباطنية نحو جلب النفع ودفع الضرر فتتعاقب عليه الأعمال عن علم وإرادة فيخطئ ويصيب حتى يتدرب في تمييز الصواب من الخطأ، والخير من الشر، والنفع من الضر والظرف الذي يثبتونه أعني ما يصفونه من عالم الذر ليس بموطن العقل العملي إذ ليس فيه شرائط حصوله وأسبابه.
ولو فرضوه موطنا له وفيه أسبابه وشرائطه كما يظهر مما يصفونه تعويلا على ما في ظواهر الروايات أن الله دعاهم هناك إلى التوحيد فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه، وأجابه آخرون وقد أضمروا الكفر وبعث إليهم الأنبياء والأوصياء فصدقهم بعض وكذبهم آخرون ولا يجري ما ههنا إلا على ما جرى به ما هنالك إلى غير ذلك مما ذكروه كان ذلك إثباتا لنشأة طبيعية قبل هذه النشأة الطبيعية في الدنيا نظير ما يثبته القائلون بالأدوار والأكوار (1) واحتاج إلى تقديم كينونة ذرية أخرى تتم بها الحجة على من هنالك من الانسان لان عالم الذر على هذه الصفة لا يفارق هذا العالم الحيوي الذي نحن فيه الآن فلو احتاج هذا الكون الدنيوي إلى تقديم إشهاد وتعريف حتى يحصل المعرفة وتتم الحجة لاحتاج إليه الكون الذري من غير فرق فارق البتة.
على أن الانسان لو احتاج في تحقق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدم وجود ذري يقع فيه الاشهاد ويوجد فيه الميثاق حتى تثبت بذلك المعرفة بالربوبية لم يكن في ذلك فرق بين إنسان وإنسان فما بال آدم وحواء استثنيا من هذه الكلية؟ فإن لم يحتاجا إلى ذلك لفضل فيهما أو لكرامة لهما ففي ذريتهما من هو أفضل منهما وأكرم! وإن كان لتمام خلقتهما يومئذ فأثبتت فيهما المعرفة من غير حاجة إلى إحضار الوجود الذري

(1) وهو أن الحوادث معلولة للحركات الفلكية ففي كل دور نام لحركة فلك الثوابت وهو ثلاثمأة وستون ألف سنة تعود الحوادث كعين ما كانت في الدورة السابقة من غير فرق.
(٣١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 312 313 314 315 316 317 318 319 320 321 322 ... » »»
الفهرست