والاسلام دين فطرى لا هم له إلا احياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الانسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدى إليه الخلقة وتقضى به الفطرة.
وهو كما يحيى بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيى أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوى من اللحوم، وحكم الاحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضا ينتهى أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الاسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الانساني، مثل ما أهل به لغير الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.
وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الانسان وكثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام والاسقام والمصائب وأنواع العذاب.
ثم الرحمة الانسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الاطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازى مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان، وفيه هلاك الأرض ومن عليها. ومع ذلك لم يهمل الاسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه - ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة - ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه ووضع للتذكية أرفق الاحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه، ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.
ومع ذلك كله الاسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الاحكام المصلحة لنظام المجتمع الانساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك