والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.
توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شئ إلا وفى إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الاخر إليه بغير واسطة أو بواسطة لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفنى ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، والتبدل، وإن شئت فقل:
عالم الاكل والمأكول.
فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها وتفنيها.
ثم النبات يتغذى بالأرض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الأصلية وعناصره الأولية، ولا يزال أحدهما يراجع الاخر.
ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك، وهى تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهى تتغذى بدم الانسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الأرض تأكل الجميع.
فنظام التكوين وناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذي سوى الانسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا. وفى مقدم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الانعام لا تستطيع قطعا ونهشا، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا.
ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمر الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدى إليه بتسليم أحدهما وإنكار الاخر؟.