(خلق السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت) ومنه قوله: * وألحق بالحجاز فأستريحا * ثم انظر إلى معنى البيت، فإنك لو رفعت فيه وألحق لم يكن فيه ذلك اللطف الذي هو في النصب، لأنك إذا رفعت كان المعنى: سأترك منزلي وألحق بالحجاز، وأما إذا نصبت يكون النصب بتقدير أن، ويكون أن مع ما بعده في تأويل مفرد: أي وشأني الإلحاق بالحجاز أو لحوق الحجاز بي، فانظر يشهد لك الذوق بالتفاوت بين معنى الرفع والنصب، فلذلك المعنى عدل عن الرفع للنصب، وجميع آي القرآن وتراكيبه لا يلزم أن يكون أفصح على الإطلاق، بل بعضه أفصح وبعضه فصيح، فيكون واردا على جميع طرق أنواع الكلام وفنونه:
(أفنى رباحا وبنى رباح * تناسخ الإمساء والإصباح) في سورة الأنعام عند قوله تعالى (فالق الإصباح) في قراءة الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله أفنى رباحا الخ. ورباح: حي من يربوع، وقيل اسم رجل، وروى بفتح الراء والباء المنقوطة بواحدة. والإمساء والإصباح، ويروى بالكسر والفتح مصدري وجمعي مساء وصباح، وهذا على حد:
أشاب الصغير وأفنى الكبير * كر الغداة ومر العشى وقريب منه: تسع وتسعون لو مرت على حجر * لبان تأثيرها في منعة الحجر (يقولون لا تبعد وهم يدفنونه * ولا بعد إلا ما توارى الصفائح) في سورة التوبة عند قوله تعالى (ولكن بعدت عليهم الشقة) بكسر العين من باب تعب في قراءة عيسى بن عمر، ومن البيت، بعد الرجل: إذا هلك قال الله تعالى (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) وفعلهما ككرم وفرح بعدا وبعدا، وقد وقع لفظ البعد بمعنى الهلاك في قول قيس بن أبي عوانة الباهلي في قصيدته المشهورة التي أولها:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت * وقد لاقي الهزبر أخاك بشرا إلى أن قال: ولا تبعد فقد لاقيت حرا * يحاذر أن يعاب فمت حرا والصفائح أحجار عراض يسقف بها القبر، وهذه لفظة جرت العادة باستعمالها عند المصاب، وليس فيه طلب ولا سؤال وإنما هي عبارة عن تناهى الجزع كما قال:
لا يبعد الله أقواما لنا ذهبوا * أفناهم حدثان الدهر والأبد نمدهم كل يوم من بقيتنا * ولا يئوب إلينا منهم أحد ومثل قوله: إخوتي لا تبعدوا أبدا * وبلى والله قد بعدوا وهذا وإن كان لفظه لفظ الدعاء فهو جار على غير أصله وإنما هو تحسر وتوجع، ومثل البيت:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونه * وأين مكان البعد إلا مكانيا وفى هذه الآية نوع من البيان يسمى الاستطراد، وهو أن يمدح شيئا أو يذمه ثم يأتي في آخر الكلام بشئ هو غرضه في أوله، قالوا: ولم يأت في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان رضي الله عنه:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني * فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم * ومضى برأس طمرة ولجام