في الغار، بما هو واضح لمن أنصف، ونزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين:
أحدهما أن عليا عليه السلام قد كان انس بالنبي صلى الله عليه وآله وحصل له بمصاحبته قديما انس عظيم، وألف شديد، فلما فارقه عدم ذلك الانس، وحصل به أبو بكر، فكان ما يجده علي عليه السلام من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه، لان الثواب على قدر المشقة.
وثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة، وقد كان خرج من قبل فردا، فازداد كراهية للمقام، فلما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وافق ذلك هوى قلبه، ومحبوب نفسه، فلم يكن له من الفضيلة ما يوازى فضيلة من احتمل المشقة العظيمة، وعرض نفسه لوقع السيوف، لرضخ الحجارة، لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب.
قال الجاحظ ثم الذي لقى أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بنى جمح، فقد كان بنى مسجدا يصلى فيه، ويدعو الناس إلى الاسلام، وكان له صوت رقيق، ووجه عتيق، وكان إذا قرا بكى، فيقف عليه المارة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد، فلما أوذي في الله، ومنع من ذلك المسجد، استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في الهجرة فأذن له، فاقبل يريد المدينة، فتلقاه الكناني (1)، فعقد له جوارا، وقال والله لا ادع مثلك يخرج من مكة، فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد، فمشت قريش إلى جاره الكناني، وأجلبوا عليه، فقال له دع المسجد وادخل بيتك، واصنع فيه ما بدا لك (2).