فان قلت ما معنى قوله (لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وابعد لهم من الاستكبار) قلت أي لو كان الأنبياء كالملوك في السطوة والبطش; لكان المكلف لا يشق عليه الاعتبار والانزجار عن القبائح مشقته عليه إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف، وكان بعد المكلفين عن الاستكبار والبغي لخوف السيف والتأديب أعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما لوجه قبحهما، فكان يكون ثواب المكلف; اما ساقطا، واما ناقصا.
* * * الأصل:
وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل; الا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلى الله عليه وسلم إلى الآخرين من هذا العالم; بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله الله للناس قياما، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق الدنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا. بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة; لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف، ثم أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه; فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة وجزائر بحار منقطعة حتى يهزوا مناكبهم ذللا، يهللون لله حوله، ويرملون على اقدامهم، شعثا غبرا له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، وامتحانا شديدا، واختبارا مبينا، وتمحيصا بليغا، جعله الله سببا لرحمته، ووصله إلى جنته.