غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شئ من الآلات البدنية، فهذه الوجوه أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم.
ثم ذكر في إثبات أن النفس ليست بجسم وجوها من الدلائل السمعية:
الأول قوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسو الله فأنساهم أنفسهم " (1) ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد، فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الانسان عند فرط الجهل شئ آخر غير هذا البدن.
الثاني قوله تعالى: " أخرجوا أنفسكم " وهذا صريح في أن النفس غير هذا الجسد.
الثالث أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين - إلى قوله - فكسونا العظام لحما " ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية، ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال " ثم أنشأناه خلقا آخر " وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغائر لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية، وذلك يدل على أن الروح شئ مغائر للبدن.
فإن قالوا: هذه الآية حجة عليكم، لأنه تعالى قال " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " وكلمة " من " للتبعيض، وهذا يدل على أن الانسان بعض من أبعاض الطين قلنا: كلمة " من " أصلها لابتداء الغاية، كقولك: خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الانسان حاصلا من هذه السلالة، ونحن نقول بموجبه، لأنه تعالى يسوي المزاج أولا ثم ينفخ فيه الروح، فيكون ابتداء تخليقه من سلالة.
الرابع قوله " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " ميز تعالى بين التسوية وبين نفخ الروح، فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء، ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله " من روحي " دل ذلك على أن جوهر الروح شئ مغائر لجوهر الجسد.