عالما قادرا على سبيل الاستقلال، فوجب أن لا يكون الانسان الواحد حيوانا واحدا، بل أحياء عالمين قادرين، وحينئذ لا يبقى فرق بين الانسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس ربط بعضهم بالبعض بالسلسلة، لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة وحيوانا لا حيوانات كثيرين. وأيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منها خبر عن حال صاحبه، فلا يمتنع أن يريد هذا الجزء أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآخر أن يتحرك إلى الجانب الآخر، فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الانسان الواحد كما يقع بين الشخصين، وفساد ذلك معلوم بالبديهة وأما الثاني فلانه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وذلك معلوم البطلان بالضرورة، مع أنه يعود المحذور السابق أيضا.
ومنها أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم وذلك يدل على أن النفس ليست جسما، وتقرير هذه المنافاة من وجوه:
الأول أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى عنه زوالا تاما، مثاله أن البصر إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه. ثم إنا وجدنا الحال في قبول النفس لصور المعقولات بالضد من ذلك، فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يعسر قبولها لشئ من الصور العقلية، فإذا قبلت صورة واحدة كان قبولها للصورة الثانية أسهل، وإذا قبلت الصورة الثانية صار قبولها للصورة الثالثة أسهل، ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر، كان قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ولهذا السبب يزداد الانسان فهما وإدراكا كلما ازداد تخريجا وارتياضا للعلوم، فثبت أن قبول النفس للصورة العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة، وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم.
والثاني أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن، أما