وثالثها أن معدن العقل هو القلب، وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب، أما المقدمة الأولى ففيها النزاع، فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ، والذي يدل على قولنا وجوه:
الأول قوله تعالى " أولم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها (1) " وقوله " لهم قلوب لا يفقهون بها (2) " وقوله " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب (3) " أي عقل، أطلق على العقل لما أنه معدن له.
الثاني أنه تعالى أضاف أضداد العقل إلى القلب، فقال: " في قلوبهم مرض (4) " " ختم الله على قلوبهم (5) "، " وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم (6) "، " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم (7) "، " يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم (8) "، " كلا بل ران على قلوبهم (9) "، " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (10) "، " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (11) " فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب، فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب.
الثالث أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب، ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر والروية أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك، وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب، لان التكليف مشروط بالعقل والفهم.