فإن لم يحس بشئ لم يشعر بكونه ملائما وبكونه منافرا، وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو الدفع، فثبت أن الشئ الذي يكون متحركا بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا، فثبت أن المدرك لجميع المدركات بجميع أنواع الادراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شئ واحد.
وأيضا فإنا إذا تكلمنا بكلام لقصد تفهيم الغير معاني تلك الكلمات فقد عقلناها وأردنا تعريف غيرنا تلك المعاني، ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود، لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني.
إذا ثبت هذا فنقول: إن كان محل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف و الأصوات جسما واحد، لزم أن يقال: إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة و اللهاة واللسان، ومعلوم أنه ليس كذلك. وإن قلنا: إن محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أن يكون محل الصوت هو القلب أيضا، وذلك باطل أيضا بالضرورة. وإن قلنا: إن محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ومحل العلوم والإرادات هو القلب ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة، لكنا أبطلنا ذلك وبينا أن المدرك لجميع الادراكات والإرادات والمحرك لجميع الأعضاء بجميع أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا، فلم يبق إلا أن يقال: محل الادراك والقدرة على التحريك شئ سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن، وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات، فكما أن النجار يفعل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة، فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالاذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب، فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها، وذات النفس جوهر مغائر لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير، وهذا البرهان برهان شريف يقيني في هذا المطلوب وبالله التوفيق.
ومنها أنه لو كان الانسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الاجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة، أو يقوم بجميع الاجزاء حياة وعلم وقدرة واحدة والقسمان باطلان، أما الأول فلانه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا