وأخذنا العطش فجزعنا أشد الجزع، وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس، فلما أرادا مفارقتنا قلنا له: بالله عليك إلا أوصلتنا إلى أهلنا، فقال:
أبشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما ثم غابا.
فلما كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا، ومعه ثلاث أحمرة، قد أقبل ليحتطب فلما رآنا ارتاع منا وانهزم، وترك حميره فصحنا إليه باسمه، وتسمينا له فرجع وقال: يا ويلكما إن أهاليكما قد أقاموا عزاءكما، قوما لا حاجة لي في الحطب، فقمنا وركبنا تلك الأحمرة، فلما قربنا من البلد، دخل أمامنا، وأخبر أهلنا ففرحوا فرحا شديدا وأكرموه وأخلعوا عليه.
فلما دخلنا إلى أهلنا سألونا عن حالنا، فحكينا لهم بما شاهدناه، فكذبونا وقالوا: هو تخييل لكم من العطش.
قال محمود: ثم أنساني الدهر حتى كأن لم يكن، ولم يبق على خاطري شئ منه حتى بلغت عشرين سنة، وتزوجت وصرت أخرج في المكاراة ولم يكن في أهلي أشد مني نصبا لأهل الإيمان، سيما زوار الأئمة عليهم السلام بسر من رأى فكنت أكريهم الدواب بالقصد لأذيتهم بكل ما أقدر عليه من السرقة وغيرها وأعتقد أن ذلك مما يقربني إلى الله تعالى.
فاتفق أني كريت دوابي مرة لقوم من أهل الحلة، وكانوا قادمين إلى الزيارة منهم ابن السهيلي وابن عرفة وابن حارب، وابن الزهدري، وغيرهم من أهل الصلاح، ومضيت إلى بغداد، وهم يعرفون ما أنا عليه من العناد، فلما خلوا بي من الطريق وقد امتلأوا علي غيظا وحنقا لم يتركوا شيئا من القبيح إلا فعلوه بي وأنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم، فلما دخلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك، وقد امتلأ فؤادي حنقا.
فلما جاء أصحابي قمت إليهم، ولطمت على وجهي وبكيت، فقالوا: مالك؟
وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى علي من أولئك القوم، فأخذوا في سبهم ولعنهم وقالوا: طب نفسا فانا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا، ونصنع بهم أعظم