كان لو حاسبه بالعدل لم يكن له عليه بعد النعم التي أسلفها حق، لأنه تعالى ابتدأ خلقه بالنعم، وأوجب عليهم بها الشكر، وليس أحد من الخلق يكافئ نعم الله تعالى عليه بعمل، ولا يشكره أحد إلا وهو مقصر بالشكر عن حق النعمة، وقد أجمع أهل القبلة على أن من قال: إني وفيت جميع ما لله علي وكافأت نعمه بالشكر فهو ضال، وأجمعوا على أنهم مقصرون عن حق الشكر، وأن لله عليهم حقوقا لو مد في أعمارهم إلى آخر مدى الزمان لما وفوا الله سبحانه بما له عليهم، فدل ذلك على أنه ما جعله حقا لهم فإنما جعله بفضله وجوده وكرمه، ولان حال العامل الشاكر خلاف حال من لا عمل له في العقول، وذلك أن الشاكر يستحق في العقول الحمد، ومن لا عمل له فليس له في العقول حمد، وإذا ثبت الفصل بين العامل ومن لا عمل له كان ما يجب في العقول من حمده هو الذي يحكم عليه بحقه ويشار إليه بذلك، وإذا أوجبت العقول له مزية على من لا عمل له كان العدل من الله تعالى معاملته بما جعل في العقول له حقا، وقد أمر تعالى بالعدل ونهى عن الجور فقال تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " (1) الآية انتهى.
وقال العلامة رحمه الله في شرحه على التجريد: ذهب جماعة من معتزلة بغداد إلى أن العفو جائز عقلا، غير جائز سمعا، وذهب البصريون إلى جوازه سمعا وهو الحق، واستدل المصنف رحمه الله بوجوه ثلاثة:
الأول أن العقاب حق الله تعالى فجاز تركه، والمقدمتان ظاهرتان.
الثاني أن العقاب ضرر بالمكلف، ولا ضرر في تركه على مستحقه، وكل ما كان كذلك كان تركه حسنا، أما أنه ضرر بالمكلف فضروري، وأما عدم الضرر في تركه فقطعي، لأنه تعالى غني بذاته عن كل شئ، وأما إن ترك مثل هذا حسن فضرورية، وأما السمع فالآيات الدالة على العفو كقوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " فإما أن يكون هذان الحكمان مع التوبة أو بدونها، والأول باطل لان الشرك يغفر من التوبة فتعين الثاني، وأيضا المعصية مع التوبة يجب غفرانها،