إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب (1) ومعلوم أن مشيب الغراب وصيرورة القار كالحليب لا ملازمة بينهما وبين إتيان الشاعر أهله.
ونظيره في الكتاب الكريم كثير كتعليق خروج أهل النار منها على ولوج الجمل في سم الخياط وبعيد من العاقل أن يدعي علاقة بينهما، وإذا كان ذلك التعليق أمرا شائعا كثير الوقوع في كلامهم فلا ترجيح للاحتمال الأول بل الترجيح معنا، فإن البلاغة في ذلك، وأما إذا تحقق العلاقة في الواقع بينهما وعلق عليه لمكان تلك العلاقة فليس له ذلك الموقع من حسن القبول ألا ترى أن المتمني لوصال حبيبه الميت لو قال: إذا رجع الموتى إلى الدنيا أمكن لي زيارة الحبيب لم يكن كقول الصب المتحسر على مفارقة الأحباء: متى أقبل الأمس الدابر وحيي الميت الغابر طمعت في اللقاء. وأيضا لا يخفي على ذي فطرة أن التزام تحقق علاقة لزوم بين استقرار الجبل في تلك الحال وبين رؤيته تعالي بحيث لو فرض وقوع ذلك الاستقرار امتنع أن لا يقع رؤيته تعالي مستبعد جدا يكاد يجزم العقل ببطلانه فإذن المقصود من ذلك الكلام مجرد بيان انتفائه بتعليقه على أمر غير واقع، ويكفي في ذلك عدم وقوع المعلق عليه، ولا يستدعى امتناع المعلق امتناعه، ولو سلم فنقول: إن المعلق عليه هو الاستقرار لا مطلقا بل في المستقبل وعقيب النظر، بدلالة الفاء وإن، وذلك لأنه إذا دخل الفاء على إن يفيد اشتراط التعقيب لا تعقيب الاشتراط فالشرط ههنا وقوع الاستقرار عقيب النظر، والنظر ملزوم لوقوع حركة الجبل عقيبه، فوقوع السكون عقيبه محال لاستحالة وقوع الشئ عقيب ما يستعقب منافي ذلك الشئ ويستلزم وقوعه عقيبه. وأما أن النظر لا يستلزم اندكاك الجبل وتزلزله ولا علاقة بينه وبينه وإنما هو مصاحبة اتفاقية فممنوع، ولعل النظر ملزوم للحركة كما أن استقرار الجبل ملزوم لرؤيته تعالى، وتحقق العلاقة بين النظر والحركة ليس بأبعد من تحقق العلاقة بين الاستقرار والرؤية. ولنقتصر على ذلك فإن إطناب الكلام في كل من الدلائل والأجوبة يوجب الخروج عما هو المقصود من الكتاب.
وأما المنكرون فاحتجوا بقوله تعالى: " لن تراني " فإن كلمة لن تفيد إما تأبيد