ترك آخر دونه، فعرف القلب بالأعلام المنيرة الواضحة أن مدبر الأمور واحد، وأنه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الأزمنة والأبد والدهر اختلاف في التدبير وتناقض في الأمور، ولتأخر بعض وتقدم بعض، ولكان تسفل بعض ما قد علا، ولعلا بعض ما قد سفل، ولطلع شئ وغاب فتأخر عن وقته أو تقدم ما قبله فعرف القلب بذلك أن مدبر الأشياء ما غاب منها وما ظهر هو الله الأول، خالق السماء وممسكها، وفارش الأرض وداحيها، وصانع ما بين ذلك مما عددنا وغير ذلك مما لم يحص.
وكذلك عاينت العين اختلاف الليل والنهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرهما، ولا يتغيران لكثرة اختلافهما، ولا ينقصان عن حالهما، النهار في نوره وضيائه، والليل في سواده وظلمته، يلج أحدهما في الآخر حتى ينتهي كل واحد منهما إلى غاية محدودة معروفة في الطول والقصر على مرتبة واحدة ومجرى واحد، مع سكون من يسكن في الليل، وانتشار من ينتشر في الليل، وانتشار من ينتشر في النهار، وسكون من يسكن في النهار، ثم الحر والبرد وحلول أحدهما بعقب الآخر حتى يكون الحر بردا، والبرد حرا في وقته وإبانه، فكل هذا مما يستدل به القلب على الرب سبحانه وتعالى، فعرف القلب بعقله أن من دبر هذه الأشياء هو الواحد العزيز الحكيم الذي لم يزل ولا يزال، وأنه لو كان في السماوات والأرضين آلهة معه سبحانه لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، ولفسد كل واحد منهم على صاحبه.
وكذلك سمعت الاذن ما أنزل المدبر من الكتب تصديقا لما أدركته القلوب بعقولها، وتوفيق الله إياها، وما قاله من عرفه كنه معرفته بلا ولد ولا صاحبة ولا شريك فأدت الاذن ما سمعت من اللسان بمقالة الأنبياء إلى القلب.
شرح: قوله عليه السلام: ربما ذهب الحواس إما بالنوم كما سيأتي أو بآفة فإن العقل لا محالة يدله على أن يشير إلى بعض ما يصلحه، ويطلب ما يقيمه بأي وجه كان، على أن ذهاب الحواس الخمس لا ينافي بقاء النطق. قوله عليه السلام: إلا النزوع إلى الحواس أي الاشتياق إليها، والحاصل أنا نوافقك ونستدل لك بما تدل عليه الحواس، وإن كنت رفضتها وتركيتها وسلمت فيما مضى كونها معزولة عن بعض الأشياء فنقول: إن حكم