المسخر بين السماء والأرض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشئ من الأرض و الجبال، يتخلل الشجرة فلا يحرك منها شيئا، ولا يهصر منها غصنا، ولا يعلق منها بشئ يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته، ويحتمل من ثقل الماء و كثرته ما لا يقدر على صفته، مع ما فيه من الصواعق الصادعة، والبروق اللامعة، والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الأوهام صفته ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه، فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه (1) ويلتحم بعد تزايله، تفرقه الرياح (2) من الجهات كلها إلى حيث تسوقه بإذن الله ربها، يسفل مرة ويعلو أخرى، متمسك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه (3) صارت منه البحور، يمر على الأراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه نقطة، (4) حتى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ فيرسل ما فيه قطرة بعد قطرة، وسيلا بعد سيل، متتابع على رسله حتى ينقع البرك (5) وتمتلي الفجاج، و تعتلي الأودية بالسيول كأمثال الجبال غاصة بسيولها، مصمخة الآذان لدويها و هديرها (6) فتحي بها الأرض الميتة، فتصبح مخضرة بعد أن كانت مغبرة، ومعشبة بعد أن كانت مجدبة، قد كسيت ألوانا من نبات عشب ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس الانعام، فإذا أفرغ الغمام ماءه أقلع وتفرق وذهب حيث لا يعاين ولا يدرى أين توارى، فأدت العين ذلك إلى القلب فعرف القلب أن ذلك السحاب لو كان بغير مدبر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء، وإن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفي فرسخ أو أكثر، ولأرسله فيما هو أقرب من ذلك، ولما أرسله قطرة بعد قطرة، بل كان يرسله إرسالا فكان يهدم البنيان ويفسد النبات، ولما جاز إلى بلد و
(١٦٤)