ولعمري لو تفكروا في هذه الأمور العظام لعاينوا من أمر التركيب البين، ولطف التدبير الظاهر، ووجود الأشياء مخلوقة بعد أن لم تكن، ثم تحولها من طبيعة إلى طبيعة، وصنيعة بعد صنيعة، ما يدلهم ذلك على الصانع فإنه لا يخلو شئ منها من أن يكون فيه أثر تدبير وتركيب يدل على أن له خالقا مدبرا، وتأليف بتدبير يهدي إلى واحد حكيم.
وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتابا كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الانكار، وذلك أنه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند، وكان لا يزال ينازعني في رأيه، ويجادلني على ضلالته، فبينا هو يوما يدق إهليلجة ليخلطها دواءا احتجت (1) إليه من أدويته، إذ عرض له شئ من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه من ادعائه أن الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت وأخرى تسقط، نفس تولد وأخرى تتلف، وزعم أن انتحالي المعرفة لله تعالى دعوى لا بينة لي عليها، ولا حجة لي فيها، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأول، والأصغر عن الأكبر، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إنما تعرف بالحواس الخمس: نظر العين، وسمع الاذن، وشم الانف، وذوق الفم، ولمس الجوارح، ثم قاد (2) منطقه على الأصل الذي وضعه فقال: لم يقع شئ من حواسي على خالق يؤدي إلى قلبي، إنكار الله تعالى.
ثم قال: أخبرني بم تحتج في معرفة ربك الذي تصف قدرته وربوبيته، و إنما يعرف القلب الأشياء كلها بالدلالات الخمس التي وصفت لك؟ قلت: بالعقل الذي في قلبي، والدليل الذي أحتج به في معرفته.
قال: فأنى يكون ما تقول وأنت تعرف أن القلب لا يعرف شيئا بغير الحواس الخمس؟ فهل عاينت ربك ببصر، أو سمعت صوته بأذن، أو شممته بنسيم، أو ذقته بفم، أو مسسته بيد فأدى ذلك المعرفة إلى قلبك؟ قلت: أرأيت إذ أنكرت الله وجحدته (3)