مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا (1) كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك. ومن جسيم المصالح في الخشب أنه يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه وليس كلهم يعرف جلالة الامر فيه، فلولا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن والأظراف تحمل أمثال الجبال من الحمولة، وأنى كان ينال الناس هذا الوفق (2) وخفة المؤونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد؟ وكانت تعظم المؤونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسرا وجوده.
فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج، (3) وهذا ينزف المرة السوداء مثل الافتيمون، (4) وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج، وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة؟ ومن فطن الناس بها إلا من جعل هذا فيها؟ ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق كما قال قائلون؟
وهب الانسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها؟ حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحه إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ، وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم، وأشباه هذا كثير. ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا انس ولا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش، وحبه علف للطير، وعوده و أفنانه حطب فيستعمله الناس، وفيه بعد أشياء تعالج به الأبدان، وأخرى تدبغ به الجلود وأخرى تصبغ به الأمتعة، وأشباه هذا من المصالح. ألست تعلم أن أخس النبات وأحقره