لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج، ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له أن أبا سهل بن إسماعيل بن علي النوبختي - رضي الله عنه - ممن تجوز عليه مخرقته، ووجه إليه يستدعيه وظن أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله وقدر أن يستجره إليه فيتمخرق به، ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتب إليه ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أيضا عندهم.
وقول له في مراسلته إياه: إني وكيل صاحب الزمان عليه السلام - وبهذا أو لا كان يستجر الجهال ثم يعلو منه إلى غيره - وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر فأرسل إليه أبو سهل رضي - الله عنه - يقول له:
أني أسألك أمرا يسيرا يخف مثله عليك، في جنب ما ظهر على يديك، من الدلائل والبراهين، وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن، واحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعدا، والوصال هجرا، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة.
فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته، وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل - رضي الله عنه - أحدوثة وضحكة ويطنز به (أي: يسخر) عند كل أحد، وشهر أمره عند الكبير والصغير، وكان هذا الأمر سببا لكشف أمره، وتنفير الجماعة عنه و (منهم): ابن أبي العزاقر، أخبرني الحسين بن إبراهيم عن أحمد بن نوح عن أبي نصر هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب ابن بنت أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري - رضي الله عنه - (قال): كان أبو جعفر بن أبي العزاقر وجيها عند بني بسطام وذلك أن الشيخ أبا القاسم - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - كان قد جعل له عند الناس منزلة وجاها، فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء، وكفر لبني بسطام ويسنده عن الشيخ أبي القاسم، فيقبلونه منه ويأخذونه عنه، حتى انكشف ذلك لأبي القاسم - رضي الله عنه - فأنكره وأعظمه، ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا، وأقاموا على توليه وذاك أنه كان يقول لهم:
أنني أذعت السر وقد أخذ علي الكتمان فعوقبت بالإبعاد بعد الإختصاص، لأن الأمر عظيم لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن، فيؤكد في نفوسهم عظم الأمر وجلالته، فبلغ ذلك أبا القاسم - رضي الله عنه - فكتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه، فلما وصل إليهم أظهروه عليه فبكى بكاء عظيما ثم قال: إن لهذا القول باطنا عظيما وهو: أن اللعنة (الإبعاد) فمعنى قوله لعنه الله أي: باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي ومرغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا لأمر، قالت الكبيرة - رضي الله عنها -: وقد كنت أخبرت الشيخ أبا القاسم أن أم أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوما وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتى انكبت على رجلي تقبلها فأنكرت ذلك وقلت لها:
مهلا يا ستي!
فقالت لي: إن الشيخ أبا جعفر محمد بن علي قد كشف لنا السر.
قالت: فقلت لها: وما السر؟
قالت: قد أخذ علينا كتمانه، وأفزع إن أنا أذعته عوقبت.
قالت: وأعطيتها موثقا أني لا اكشفه لأحد واعتقدت في نفسي الاستثناء بالشيخ - رضي الله عنه - يعني أبا القاسم الحسين بن روح.
قالت: إن الشيخ أبا جعفر قال لنا: أن روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتقلت إلى أبيك يعني: أبا جعفر محمد بن عثمان - رضي الله عنه - وروح أمير المؤمنين علي عليه السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمة عليها السلام انتقلت إليك فكيف لا أعظمك يا ستنا؟!
فقلت لها: مهلا لا تفعلي فإن هذا كذب يا ستنا!
فقالت لي: سر عظيم وقد أخذ علينا أننا لا نكشف هذا لأحد فالله الله في لا يحل لي العذاب، ويا ستي لولا أنك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك.
قالت الكبيرة أم كلثوم - رضي الله عنها -: فلما انصرفت من عندها دخلت على الشيخ أبي القاسم بن روح - رضي الله عنه - فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي.
فقال لي: يا بنية إياك أن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها، ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك، ولا رسولا إن أنفذته إليك، ولا تلقيها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى، وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقا إلى أن يقول لهم بأن الله تعالى اتحد به وحل فيه كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام، ويعدو إلى قول الحلاج لعنه الله.
قالت: فهجرت بني بسطام، وتركت المضي إليهم، ولم أقبل لهم عذرا، ولا لقيت أمهم بعدها، وشاع في بني نوبخت الحديث فلم يبق أحد إلا وتقدم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه وممن يتولاه ورضي بقوله أو كلمه فضلا عن موالاته، ثم ظهر التوقيع من صاحب الزمان عليه السلام بلعن أبي جعفر محمد بن علي والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله وأقام على توليه بعد المعرفة بهذا التوقيع، وله حكايات قبيحة ننزه كتابنا عن ذكرها، ذكرها ابن نوح وغيره.