يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله " تعريفا للخليقة قربهم، ألا ترى أنك تقول:
" فلان إلى جنب فلان " إذا أردت أن تصف قربه منه.
وإنما جعل الله تبارك وتعالى في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره، وغير أنبيائه وحججه في أرضه، لعلمه بما يحدثه في كتابه المبدلون، من: إسقاط أسماء حججه منه، وتلبيسهم ذلك على الأمة ليعينوهم على باطلهم، فأثبت به الرموز، وأعمى قلوبهم وأبصارهم، لما عليهم في تركها وترك غيرها، من الخطاب الدال على ما أحدثوه فيه، وجعل أهل الكتاب المقيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه من:
شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، وجعل أعدائها، أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم، فأبي الله إلا أن يتم نوره، ولو علم المنافقون لعنهم الله: ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بينت لك تأويلها، لأسقطوها مع ما أسقطوا منه، ولكن الله تبارك اسمه ماض حكمه بإيجاب الحجة على خلقه، كما قال الله تعالى، " فلله الحجة البالغة " أغشى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة عن تأمل ذلك، فتركوه بحاله، وحجبوا عن تأكيد الملتبس بإبطاله، فالسعداء ينهون عليه، والأشقياء يعمون عنه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
ثم إن الله جل ذكره لسعة رحمته، ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه، قسم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه: يعرفه العالم والجاهل وقسما: لا يعرفه إلا من صفى ذهنه، ولطف حسه، وصح تميزه، ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسما: لا يعرفه إلا الله، وأمناؤه، والراسخون في العلم، وإنما فعل الله ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه أمرهم فاستكبروا عن طاعته، تعزرا (1) وافتراء على الله عز وجل، واغترارا بكثرة من ظاهرهم، وعاونهم، وعاند الله عز وجل ورسوله.