شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ١٩٣
عالم الإمكان، وكنه الواجب خارج عن هذا العالم.
(وقمع وجوده جوايل الأوهام) القمع القلع والكسر. والجوائل جمع الجائل يقال: جال واجتال إذا ذهب وجاء، منه الجولان في الحرب، يعني: كسر وجوده الأوهام الجائلة في ميدان معرفة حقيقته لأنك قد عرفت مرارا أن الوهم إنما يدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات ووجوده تعالى لما لم يكن محسوسا ولا متعلقا به كان كاسرا لتعلق الأوهام (1) به وبحقيقته.
(فمن وصف الله فقد حده) (2) أي من وصفه بكيفيات لائقة بمخلوقاته (3) وصفات زائدة على

1 - قوله: «كان كاسرا لتعلق الأوهام» ليس في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) شيء آكد من هذا التنزيه البليغ وردع الأوهام والعقول عن تصور ذاته تعالى، وقد كان يكفي ذكره مرة واحدة إن كان المقصود بيان الواقع فقط ولكن مراعاة قواعد البلاغة وإيراد الكلام مطابقا لمقتضى الحال يقتضي تذكير المخاطب بعد كل كلمة يحتمل ذهاب وهمه منه إلى التشبيه وإن أوجب التكرار; لأن المقام يقتضي التأكيد فقال: البصير لا بأداة، فإن ذهن المخاطب يذهب من البصر إلى العين الباصرة، وقال بعده: السميع لا بتفريق آلة، وهكذا أورد بعد كل كلمة دافعا للوهم، ثم أكد جميع ذلك بأربع جمل في التنزيه وردع الأوهام عن إثبات اللوازم العرفية والعادية، فقد جمع (عليه السلام) بين تفهيم العامة وتقويم الخاصة وتطعيم عقول الكرام وتزميم شراسة الأوهام، وطريقة الأئمة (عليهم السلام) تغاير طريقة الفلاسفة العظام إذ يكتفي الفلاسفة ببيان شيء مرة واحدة غالبا لأن مخاطبهم الخواص، مثلا: يقولون: لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى ويكتفون به، ثم يقولون: الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، ويجعلون الكلام الأول قرينة على المراد من كلام الثاني وإن كان بينهما فواصل ومقتضى البلاغة أن يصلوا بالكلام الثاني ما يدفع به ذهاب الأوهام إلى بعض لوازم الكلام فيقولوا مثلا: لا يخلق الله تعالى أول ما يخلق إلا أشرف مخلوقه وأقربهم إليه كما ورد: أول ما خلق الله العقل أو اللوح أو القلم أو روح خاتم الأنبياء أو الماء، ومعلوم أن الأول واحد ولا يفعل إلا الأصلح، ومثله قول بعضهم بوحدة الوجود ويذهب الوهم منه إلى لوازم باطلة وكان عليهم إن أرادوا بلاغة الكلام أن يقولوا: هو مع كل شيء أو داخل فيها من غير ممازجة وأمثال ذلك مما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام). (ش) 2 - قوله: «فمن وصف الله فقد حده» في توحيد المفضل: «ان العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفة فإن قالوا: فكيف يكلف العبد الضعيف معرفة بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟ قيل لهم: إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير، أبيض هو أم أسمر إنما تكليفهم الإذعان بسلطانه طاعة والانتهاء إلى أمره، ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال أعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك وإلا لم أسمع لك، قد أحل نفسه العقوبة، فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرض لسخطه. فإن قالوا: أو ليس نصفه فنقول: هو العزيز الحكيم الجواد الكريم؟ قيل لهم كل هذه صفة إقرار وليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه، وكذلك قدير وجواد وساير صفاته كما قد نرى السماء ولا ندري أين منتهاها بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له; لأن الأمثال كلها تقصر عنه ولكنها تقود العقل إلى معرفته. انتهى ما أردنا نقله، وهذا مذهب الحكماء في الصفات قالوا: إن مفاهيم الصفات معلومة وحقيقتها وهي عين الذات مجهولة. (ش) 3 - «بكيفيات لائقة بمخلوقاته» لا حاجة إلى هذا القيد فإن الإنسان إذا وصفه وصفه بما يفهمه ويتعقله ولا يتعقل إلا ما يليق بالمخلوق فيصح إذا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير تقييد. ولا ريب أن الوصف تحديد، مثلا إذا قلت:
انه أبيض سلبت عنه ساير الألوان، وإذا قلت إنه جسم سلبت عنه التجرد وإذا قلت مجرد سلبت عنه الأبعاد والمواد، وبالجملة وصف كل شيء بشيء يوجب تحديد وجوده في حد، نعم إذا كان الوصف بالوجود كان معناه سلب العدم وليس تحديد الوجود، وأيضا: إثبات العلم الله تعالى نفي للجهل وهو عدم وليس تحديدا للوجود، وإثبات القدرة نفي العجز وهو عدم، فلا جرم لا يكون الوصف بأمثاله تحديدا والمراد من الوصف تميزه بصفة من بين الصفات الوجودية مع أن نسبته تعالى إلى الجميع على السواء. (ش)
(١٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 188 189 190 191 192 193 194 195 196 197 198 ... » »»
الفهرست