شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ١٥٥
وهو أنه خلق الأشياء لا من شيء (فنفى من) بإدخال حرف النفي عليها وأنكر عليهم إدخال «من» على حرف النفي (إذ كانت) يعني «من» (توجب شيئا) (1) فلو دخلت على حرف النفي كما قالوا لزم التناقض في قولهم «من لا شيء» كما عرفت (ونفي الشيء) إشارة إلى أن النفي في قولنا «لا من شيء» راجع إلى مفهوم «من» الابتدائية، ومفهوم مدخولها وهو الشيء كليهما، لا إلى مفهوم من وحده حتى يلزم وجود شيء قبل خلقه للأشياء.
(إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا لا من أصل) تعليل لنفي «من» ونفي الشيء جميعا وهو في الحقيقة سند للمنع كما يظهر بالتأمل.
(أحدثه الخالق) (2) لا من أصل، وهذا تأكيد للسابق ومبالغة في أن خلقه بمحض الاختراع من غير

١ - قوله: «من توجب شيئا» «من» هذه حرف جر بمعنى ابتداء الغاية وقد يقال لها «من» النشوية وهي تقتضي شيئا منه يبتدأ وينشأ شيء آخر مثل ابتداء المسافة الحقيقية نحو: سرت من البصرة إلى الكوفة، أو الوهمية نحو:
حفظت الكتاب من أوله إلى آخره، وقد تدل على العلة الفاعلية نحو أن يقال: وجود العالم من الله، أو على العلة المادية نحو: خلقكم من تراب ثم من نطفة، أو على العلة المعدة نحو: الابن من الأب، والعذاب من المعاصي، وإذا اغتسل الإنسان خلق الله من كل قطرة من ماء غسله ملكا يستغفر له، ونعيم الآخرة تتجسم من أعمال أهل الدنيا وأجسامهم من أجسامهم في الدنيا، ويجب الفرق بين العلة المادية والعلة المعدة، وخلق النفس المجردة من البدن من الثاني، والصورة النوعية من المزاج من قبيل الأول. (ش) ٢ - قوله: «لا من أصل أحدثه الخالق» مذهب أهل التوحيد أن الله تعالى خلق ما خلق من أصل وخلق ذلك الأصل أيضا وليس الأصل غير مخلوق بخلاف الثنوية أي المانوية منهم فإنهم قالوا بعدم مخلوقية الأصل وبمخلوقية ما تركب منه فقط وقوله «أحدثه الخالق» أي أوجده وأطلق الأحداث على الإيجاد للملازمة عرفا بين الحدوث والخلق. وقد تكرر البحث في الحدوث متفرقا في الحواشي، ونلخص لك هاهنا حاصل ما سبق وهو أن الحدوث يمكن أن يثبت للعالم لوجوه:
الأول التعبد الشرعي في الاعتقاد به والدليل عليه ظاهر الكتاب والسنة والإجماع وهذا وجه حسن ولكن يتوقف على إثبات حجية الإجماع وظاهر الكتاب وقول الرسول والأئمة (عليهم السلام) فما لم يثبت ذلك أولا لم يصح التمسك بقولهم وإثبات ذلك كله متوقف على إثبات وجوده تعالى وعدله ولطفه وحكمته والنبوة وغير ذلك قبل إثبات الحدوث.
الثاني إثبات حدوث العالم حتى يثبت به احتجاجه إلى الصانع ويثبت به وجوده تعالى ولا يجوز التمسك حينئذ في ذلك بالإجماع وأدلة الشرع; لأن المنكر أو الشاك في وجوده تعالى لا يعترف بالشرع ولا بدليله بل الصحيح أن يثبت الحدوث بالدليل العقلي أولا، ثم يثبت به وجود الواجب ثانيا، ثم بعد ذلك يثبت النبوة وحجية قول النبي وبعد ذلك الإمامة وحجية أقوالهم، ثم يثبت حجية الإجماع لدخول قول المعصوم فحجية الإجماع متأخرة عن إثبات الحدوث بهذه المراتب لا مقدمة عليه.
الثالث إثبات الحدوث لا لتوقف إثبات الواجب تعالى عليه ولا للتعبد به شرعا بل لأنه مطلب علمي محض مثل عدم تناهي الأبعاد ومساحة الأرض وكرويتها ومقدار الأبعاد بين الكرات السماوية وأمثال ذلك.
وبالجملة من يريد إثبات الحدوث لإثبات الصانع لم يجز له التمسك بالأدلة الشرعية، ومن يتمسك بالأدلة الشرعية لا يجوز له التمسك به لإثبات الواجب، وظاهر كلامهم أن الاعتقاد بالحدوث إنما هو لإثبات الواجب تعالى وأن انكار الحدوث مساوق لإنكار الصانع، وأن إثبات الصانع يكفي لاثبات الحدوث، وعلى هذا فلا يجوز التمسك به بالأدلة الشرعية كالإجماع، ولما كان ذهب أكثر المتكلمين أن علة احتياج الممكن إلى الواجب إمكانه لا حدوثه، وأن العقل لا يأبى أن يتعلق شيء قديم زمانا بشيء قديم مثله كما لو فرضنا الشمس قديمة كان نورها قديما مع تعلقه بالشمس التزموا بأن إثبات الصانع مطلقا لا يتوقف على إثبات الحدوث، نعم زعم كثير منهم أن الفاعل المختار لا يجوز أن يكون فعله قديما وأن واجب الوجود مختار ففعله حادث زمانا وإلا لزم اضطراره.
والجواب: أن ذلك غير معقول لنا إذ لا يستحيل عند العقل أن يكون الفاعل المختار تعلق إرادته بأن يكون فاعلا دائما وأن يكون خلق عالما وأفناه، ثم خلق عالما آخر وأفناه وهكذا إلى غير النهاية أزلا وأبدا بحيث كان له في كل زمان مخلوق، فالوجه أن يقال: الحدوث أمر تعبدي ثابت بالدليل الشرعي لا لتوقف إثبات الواجب عليه بل هو مثل خلق العالم في ستة أيام، أو يقال حدوث الأجسام مسألة علمية مثل تركبها من الهيولى والصورة وأمثال ذلك، وبحث المتكلمون عنه كما بحثوا عن الجوهر والعرض والمقولات العشر لا لكونه مسألة شرعية، والحق أن يقال: غرض المتكلمين إثبات مخلوقية كل شيء للفاعل المختار وهو الأصل الذي لا محيص عنه وإنما عبروا بالحدوث لأنهم اعتقدوا ملازمة بين المخلوقية والحدوث ولا يهمهم إلا إثبات مخلوقية كل شيء له.
قال العلامة الحلى (قدس سره) في نهج المسترشدين: الموجود إما أن يكون قديما أو محدثا فالقديم ما لا أول لوجوده، والذي لا يسبقه العدم وهو الله تعالى خاصة، والمحدث ما لوجوده أول وهو المسبوق بالعدم وهو كل ما عدا الله تعالى.
وغرضه هنا القديم والمحدث الذاتيان، بقرينة أنه قال: والقديم لا يجوز عليه العدم لأنه إما واجب الوجود لذاته، فظاهر أنه لا يجوز عليه العدم، وإما ممكن الوجود فلا بد له من علة واجبة الوجود وإلا لزم التسلسل، ويلزم من امتناع عدم علته امتناع عدمه، فاعترف بأن الممكن يجوز أن يكون قديما زمانا مع كونه معلولا، ثم قال: إن علة احتياج الأثر إلى المؤثر إنما هي الإمكان لا الحدوث. وقال أيضا: الحدوث كيفية الوجود فتكون متأخرة عن الوجود تأخر عن الايجاد المتأخر عن الاحتياج المتأخر عن علة الاحتياج، فلو كان الحدوث علة الاحتياج لزم الدور بمراتب وهو محال. (ش)
(١٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 ... » »»
الفهرست