خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء، فقولهم «من شيء» خطأ، وقولهم: «من لا شيء» مناقضة وإحالة، لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه، فأخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة على أبلغ الالفاظ وأصحها فقال: «لا من شيء خلق ما كان» فنفى «من» إذ كانت توجب شيئا، ونفى الشيء إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا، لا من أصل أحدثه الخالق، كما قالت الثنوية: إنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثال.
ثم قوله (عليه السلام): ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه إلا مثال، كل دون صفاته تحبير اللغات فنفى (عليه السلام) أقاويل المشبهة حين شبهوه بالسبيكة والبلورة وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء وقولهم: «متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية ولم ترجع إلى إثبات هيئة لم تعقل شيئا فلم نثبت صانعا» ففسر أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه واحد بلا كيفية وأن القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة.
ثم قوله (عليه السلام): الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ثم قوله (عليه السلام): لم يحلل - في الأشياء فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن فنفى (عليه السلام) بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة، ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة ومباينة الأجسام على تراخي المسافة.
ثم قال (عليه السلام): لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير وعلى غير ملامسة.
* الشرح:
(وهذه الخطبة من مشهورات خطبه (عليه السلام) حتى لقد ابتذلها العامة) أي عظموها وأشهروها فيما بينهم حتى اشتهرت وصارت مبتذلة، غير متروكة.
(و هي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها) لاشتمالها على ما لا مزيد عليه من أمر التوحيد المطلق والتنزيه المحقق وتضمنها على إشارات لطيفة واعتبارات صحيحة من الصفات الكمالية والصفات الإضافية والسلبية.
(فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس) (1) وتعاضدت قلوبهم واستظهر بعضهم من بعض (ليس فيها