شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ١٥٠
خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء، فقولهم «من شيء» خطأ، وقولهم: «من لا شيء» مناقضة وإحالة، لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه، فأخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة على أبلغ الالفاظ وأصحها فقال: «لا من شيء خلق ما كان» فنفى «من» إذ كانت توجب شيئا، ونفى الشيء إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا، لا من أصل أحدثه الخالق، كما قالت الثنوية: إنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثال.
ثم قوله (عليه السلام): ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه إلا مثال، كل دون صفاته تحبير اللغات فنفى (عليه السلام) أقاويل المشبهة حين شبهوه بالسبيكة والبلورة وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء وقولهم: «متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية ولم ترجع إلى إثبات هيئة لم تعقل شيئا فلم نثبت صانعا» ففسر أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه واحد بلا كيفية وأن القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة.
ثم قوله (عليه السلام): الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ثم قوله (عليه السلام): لم يحلل - في الأشياء فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن فنفى (عليه السلام) بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة، ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة ومباينة الأجسام على تراخي المسافة.
ثم قال (عليه السلام): لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير وعلى غير ملامسة.
* الشرح:
(وهذه الخطبة من مشهورات خطبه (عليه السلام) حتى لقد ابتذلها العامة) أي عظموها وأشهروها فيما بينهم حتى اشتهرت وصارت مبتذلة، غير متروكة.
(و هي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها) لاشتمالها على ما لا مزيد عليه من أمر التوحيد المطلق والتنزيه المحقق وتضمنها على إشارات لطيفة واعتبارات صحيحة من الصفات الكمالية والصفات الإضافية والسلبية.
(فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس) (1) وتعاضدت قلوبهم واستظهر بعضهم من بعض (ليس فيها

١ - قوله: «فلو اجتمعت ألسنة الجن والانس» قال صاحب المواقف - هو من مشاهير متكلمي أهل السنة وكتابه أشهر كتب الكلام: علي أعلم الصحابة لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم، ومحمد (صلى الله عليه وآله) أعلم الناس وأحرصهم على إرشاده، وكان في صغره في حجره وفي كبره ختنا له يدخل عليه كل وقت، وذلك يقتضي بلوغه في العلم كل مبلغ - إلى أن قال - إن عليا ذكر في خطبه من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر ما لم يقع مثله في كلام الصحابة ولأن جميع الفرق ينتسبون إليه في الأصول والفروع وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن، وابن عباس رئيس المفسرين تلميذه، وكان في الفقه والفصاحة في الدرجة القصوى، وعلم النحو إنما ظهر منه وهو الذي أمر أبا الأسود الدؤلي بتدوينه.
وقال أستاد الحكماء المتألهين صدر الدين الشيرازي (قدس سره): وشاهد ذلك أما جملة فقول النبي (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلى بابها» ولا شك أن المقصود أنه (عليه السلام) هو المنبع الذي يفيض عنه العلوم القرآنية والأسرار الحكمية التي اشتمل عليها القرآن الحكيم والسنة الكريمة - إلى أن قال -: فالمشهور على ألسنة الجمهور وفي الكتب مسطور أن جميع فرق الإسلام انتهوا في علومهم إليه. أما المتكلمون فمعظمهم المعتزلة وانتسابهم إليه ظاهر فإن أكثر أصولهم مأخوذة من ظواهر كلامه في التوحيد والعدل وأيضا فإنهم ينتسبون إلى مشايخهم كالحسن البصري وواصل بن عطاء وكانوا منتسبين إلى على (عليه السلام) ومتلقفين عنه العلوم، وأما الأشعرية واستنادهم إلى أبي الحسن الأشعري وقد كان تلميذا لأبي علي الجبائي وهو من مشايخ المعتزلة، وأما الشيعة فانتسابهم إليه ظاهر، وأما الخوارج فهم وإن كانوا في غاية البعد عنه إلا أنهم ينتسبون إلى مشايخهم وكانوا تلامذة علي، وأما الفقهاء فمرجع انتساب فقه الجميع إليه كما هو مفصل في الكتب ككتاب الأربعين للفخر الرازي. وكفى في ذلك شاهدا قول النبي (صلى الله عليه وآله): «أقضاكم علي» والأقضى لا بد أن يكون أفقه وأعلم بالأصول والفروع، وأما الفصحاء فالجميع بمنزلة عياله في الفصاحة من حيث يملؤون أوعية أذهانهم من ألفاظه ويضمنونها خطبهم ورسائلهم فيكون بمنزلة درر العقود. وأما النحويون فأول واضع النحو أبو الأسود الدؤلي وكان ذلك بإرشاده، وأما علماء الصوفية وأرباب العرفان فنسبتهم إليه في تصفية الباطن وكيفية سلوكهم العلمي والعملي إلى الله تعالى ظاهرة الانتهاء إليه، انتهى بتخليص ما، ولا ينافي كون علم الخوارج من أعدائه منتسبا إليه كما أن علم الأخباريين مأخوذ من المجتهدين إذ لو لم يتمارسوا كتبهم لم يبلغوا ما أدركوا البتة. (ش)
(١٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 155 ... » »»
الفهرست