تحف العقول - ابن شعبة الحراني - الصفحة ٣٢٦
لئن كانوا أحبونا في السر دون العلانية (1) فهم الصوامون بالنهار القوامون بالليل ترى أثر الرهبانية في وجوههم، أهل سلم وانقياد.
قال الرجل: فأنا من محبيكم في السر والعلانية. قال جعفر عليه السلام: إن لمحبينا في السر والعلانية علامات يعرفون بها. قال الرجل: وما تلك العلامات؟ قال عليه السلام:
تلك خلال أولها أنهم عرفوا التوحيد حق معرفته وأحكموا علم توحيده. والايمان بعد ذلك بما هو وما صفته، ثم علموا حدود الايمان وحقائقه وشروطه وتأويله. قال سدير: يا ابن رسول الله ما سمعتك تصف الايمان بهذه الصفة؟ قال: نعم يا سدير ليس للسائل أن يسأل عن الايمان ما هو حتى يعلم الايمان بمن. قال سدير: يا ابن رسول الله إن رأيت أن تفسر ما قلت؟ قال الصادق عليه السلام: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك. ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن، لان الاسم محدث. ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكا. ومن زعم أنه يعبد [المعنى] بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غايب. ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لان الصفة غير الموصوف.
ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير وما قدروا الله حق قدره (2)

(1) كذا.
(2) اعلم أن حقيقة كل واحد من الأشياء كائنة ما كانت هي عينها الموجود في الخارج فحقيقة زيد مثلا هي العين الانساني الموجود في الخارج وهو الذي يتميز بنفسه عن كل شئ ولا يختلط بغيره ولا يشتبه شئ من أمره هناك مع من سواه. ثم إنا ننتزع منه معاني ناقلين إياها إلى أذهاننا نتعرف بها حال الأشياء ونتفكر بها في أمرهما كمعاني الانسان وطويل القامة والشاب وأبيض اللون وغير ذلك وهي معان كلية إذا اجتمعت وانضمت أفادت نوعا من التميز الذهني نقنع به وهذه المعاني التي ننالها ونأخذها من العين الخارجية هي آثار الروابط التي بها ترتبط بنا تلك العين الخارجية نوعا من الارتباط والاتصال كما أن زيدا مثلا يرتبط ببصرنا بشكله ولونه ويرتبط بسمعنا بصوته وكلامه ويرتبط بأكفنا ببشرته فنعقل منه صفة طول القامة والتكلم ولين الجلد ونحو ذلك فلزيد مثلا أنواع من الظهور لنا تنتقل بنحو إلينا وهي المسماة بالصفات وأما عين زيد ووجود ذاته فلا تنتقل إلى أفهامنا بوجه ولا تتجافى عن مكانه ولا طريق إلى نيله إلا أن نشهد عينه الخارجية بعينها ولا نعقل منها في أذهاننا إلا الأوصاف الكلية فافهم ذلك وأجد التأمل فيه.
ومن هذا البيان يظهر أنا لو شاهدها عين زيد مثلا في الخارج ووجدناه بعينه بوجه مشهودا فهو المعروف الذي ميزناه حقيقة عن غيره من الأشياء ووحدناه واقعا من غير أن يشتبه بغيره ثم إذا عرفنا صفاته واحدة بعد أخرى استكملنا معرفته والعلم بأحواله. وأما إذا لم نجده شاهدا و توسلنا إلى معرفته بالصفات لم نعرف منه إلا أمورا كلية لا توجب له تميزا عن غيره ولا توحيد في نفسه كما لو لم نر مثلا زيدا بعينه وإنما عرفناه بأنه انسان أبيض اللون طويل القامة حسن المحاضرة بقي على الاشتراك حتى نجده بعينه ثم نطبق عليه ما نعرفه من صفاته وهذا معنى قوله عليه السلام : " إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه ".
ومن هنا يتبين أيضا أن توحيد الله سبحانه حق توحيده أن يعرف بعينه أولا ثم تعرف صفاته لتكميل الايمان به لا أن يعرف بصفاته وأفعاله فلا يستوفى حق توحيده. وهو تعالى هو الغنى عن كل شئ، القائم به كل شئ فصفاته قائمة به وجميع الأشياء من بركات صفاته من حياة وعلم وقدرة ومن خلق ورزق وإحياء وتقدير وهداية وتوفيق ونحو ذلك فالجميع قائم به مملوك له محتاج إليه من كل جهة.
فالسبيل الحق في المعرفة أن يعرف هو أولا ثم تعرف صفاته ثم يعرف بها ما يعرف من خلقه لا بالعكس.
ولو عرفناه بغيره لن نعرفه بالحقيقة ولو عرفنا شيئا من خلقه لا به بل بغيره فذلك المعروف الذي عندنا يكون منفصلا عنه تعالى غير مرتبط به فيكون غير محتاج إليه في هذا المقدار من الوجود فيجب أن يعرف الله سبحانه قبل كل شئ ثم يعرف كل شئ بماله من الحاجة إليه حتى يكون حق المعرفة وهذا معنى قوله عليه السلام: " تعرفه وتعلم علمه.. الخ " أي تعرف الله معرفة إدراك لا معرفة توصيف حتى لا تستوفى حق توحيده وتمييزه وتعرف نفسك بالله لأنك أثر من آثاره لا تستغنى عنه في ذهن ولا خارج ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك حتى تثبت نفسك مستغنيا عنه فتثبت إلها آخر من دون الله من حيث لا تشعر، وتعلم أن ما في نفسك لله وبالله سبحانه لا غنى عنه في حال (ولعل تذكير الضمير الراجع إلى النفس من جهة كسب التذكير بالإضافة).
وأما قوله: " وتعلم علمه " فمن الممكن أن يكون من القلب أي تعلمه علما. أو من قبيل المفعول المطلق النوعي، أو المراد العلم الذاتي أو مطلق صفة علمه تعالى.
وأما قوله: " كما قالوا ليوسف الخ " فمثال لمعرفة الشاهد بنفسه لا بغيره من المعاني والصفات و نحوهما.
وكذا قوله: " أما ترى الله يقول: ما كان لكم الخ " مثال آخر ضربه عليه السلام وأوله إلى مسألة نصب الإمام وأن إيجاد عين هذه الشجرة الطيبة إلى الله سبحانه لا إلى غيره.
والحديث مسوق لبيان أن الله سبحانه لا يعرف بغيره حق معرفته بل لو عرف فإنما يعرف بنفسه ويعرف غيره به فهو في مساق ما رواه الصدوق في التوحيد بطريقين عن عبد الاعلى عن الصادق عليه السلام قال: ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لان الحجاب والصورة والمثال غيره، وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه عرفه بغيره، إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره - إلى أن قال -: لا يدرك مخلوق شيئا الا بالله، و لا تدرك معرفة الله الا بالله. الحديث.
ومن جميع ما تقدم يظهر معنى قوله عليه السلام " ومن زعم - إلى قوله -: حق قدره " فقوله: " ومن زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك " لأنه يعبد مثالا أثبته في قلبه وليس بالله، وقوله: " ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم الخ " لأنه طعن فيه تعالى بالحدوث، وقوله: " ومن زعم أنه يعبد الاسم " والمعنى الخ " فان الاسم غير المعنى. وقوله: " ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب " أي أثبت وعبد الها غائبا، وليس تعالى غائبا عن خلقه وقد قال: " أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد. ألا انهم في مرية من لقاء ربهم ألا أنه بكل شئ محيط حم السجدة - 54 وقد مر بيان ذلك، وقوله: " ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد " بناء على دعواه مغايرة الصفة الموصوف.
وقوله: " ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير الخ " بأن يزعم أنه يعرف الله سبحانه بما يجد له من الصفات كالخلق والاحياء والإماتة والرزق، وهذه الصفات لا محالة صفات الافعال فقد صغر بالكبير فان الله سبحانه أكبر وأعظم من فعله المنسوب إليه وما قدروا الله حق قدره.
والفرق بين معرفته بإضافة الموصوف إلى الصفة ومعرفته بالصفة لا بالادراك أن الأول يدعى مشاهدته تعالى بمشاهدة صفته والثاني يدعى معرفته بالتوصيف الذي يصفه به فالمراد بالصفة في الفرض الأول صفاته الفعلية القائمة به نحو قيام، وفى الفرض الثاني البيان والوصف الذي يبينه الزاعم سواء كان من صفاته تعالى أم لا هذا، ولمغايرة الصفة الموصوف معنى آخر أدق مما مر يقتضى بسطا من الكلام لا يسعه المقام.
(هذا ما أفاده الأستاذ: العلامة الحاج السيد محمد حسين الطباطبائي التبريزي مد ظله)
(٣٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 321 322 323 324 325 326 327 328 329 330 331 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة المؤلف 1
2 ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله 6
3 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام 6
4 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم أخرى له عليه السلام مختصرة 10
5 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم أخرى له عليه السلام 13
6 حكمه صلى الله عليه وآله وسلم وكلامه وموعظته 15
7 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل 25
8 كلامه صلى الله عليه وآله وسلم في أمور شتى 27
9 ذكره صلى الله عليه وآله وسلم العلم والعقل والجهل 28
10 موعظته صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأمته 29
11 خطبته صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع 30
12 في قصارى كلماته صلى الله عليه وآله 35
13 ما روى عن أمير المؤمنين 61
14 خطبته عليه السلام في إخلاص التوحيد 61
15 كتابه عليه السلام إلى ابنه الحسن عليه السلام 68
16 وصيته عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام 88
17 خطبته عليه السلام المعروفة بالوسيلة 92
18 آدابه عليه السلام لأصحابه وهي أربعمائة باب للدين والدنيا 100
19 عهده عليه السلام إلى الأشتر حين ولاه مصر 126
20 خطبته عليه السلام المعروفة بالديباج 149
21 كلامه عليه السلام في الترغيب والترهيب 154
22 موعظته عليه السلام ووصفه المقصرين 157
23 كلامه عليه السلام في وصف المتقين 159
24 خطبته عليه السلام التي يذكر فيها الايمان والكفر ودعائمه وشعبها 162
25 كلامه عليه السلام لكميل بن زياد 169
26 وصيته عليه السلام لكميل بن زياد مختصرة 171
27 وصيته عليه السلام لمحمد بن أبي بكر حين ولاه مصر 176
28 كلامه عليه السلام في الزهد وذم الدنيا وعاجلها 180
29 كلامه عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء 183
30 كلامه عليه السلام في وضع المال مواضعه 185
31 كلامه عليه السلام الدنيا للمتقين 186
32 ذكره عليه السلام الايمان والأرواح واختلافها 188
33 وصيته عليه السلام لزياد بن النضر حين أنفذه إلى صفين 191
34 وصفه عليه السلام لنقلة الحديث 193
35 كلامه عليه السلام في قواعد الدين ومعنى الاستغفار 196
36 وصيته عليه السلام إلى ابنه الحسن لما حضره الوفاة 197
37 تفضيله عليه السلام العلم 199
38 في قصارى كلماته عليه السلام 200
39 ما روى عن الامام السبط الزكي الحسن بن علي عليهما السلام 225
40 أجوبته عليه السلام عن مسائل سئل عنها 225
41 حكمه عليه السلام ومواعظه 227
42 جوابه عليه السلام عن مسائل سأل عنها ملك الروم 228
43 جوابه عليه السلام عن كتاب الحسن البصري في الاستطاعة 231
44 موعظته عليه السلام شيعته 232
45 خطبته عليه السلام حين قال له معاوية بعد الصلح: أذكر فضلنا 232
46 في قصارى كلماته عليه السلام 233
47 ما روى عن الامام السبط الشهيد المفدى عليه السلام 237
48 كلامه عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 237
49 موعظته عليه السلام شيعته ومواليه 239
50 كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفة 240
51 جوابه عليه السلام عن مسائل سال عنها ملك الروم 242
52 كلامه عليه السلام في وجوه الجهاد 243
53 كلامه عليه السلام في توحيد الله تعالى 244
54 في قصاري كلماته عليه السلام 245
55 ما روى عن الامام علي بن الحسين عليهما السلام 249
56 موعظته عليه السلام أصحابه وشيعته في كل يوم جمعة 249
57 كلامه عليه السلام في الزهد والحكمة 252
58 رسالته عليه السلام في جوامع الحقوق 255
59 كلامه عليه السلام في الزهد 272
60 كتابه عليه السلام إلى محمد بن مسلم الزهري يعظه 274
61 في قصاري كلماته عليه السلام 278
62 ما روى عن الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام 284
63 وصيته عليه السلام لجابر بن يزيد الجعفي 284
64 كلامه عليه السلام لجابر أيضا 286
65 كلامه عليه السلام في أحكام السيوف 288
66 موعظته عليه السلام شيعته ومواليه 291
67 في قصارى كلماته عليه السلام 292
68 ما روى عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام 301
69 وصيته عليه السلام لعبد الله بن جندب 301
70 وصيته عليه السلام لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول 307
71 رسالته عليه السلام إلى جماعة شيعته وأصحابه 313
72 كلامه عليه السلام سماه بعض الشيعة نثر الدرر 315
73 كلامه عليه السلام في وصف المحبة 325
74 كلامه عليه السلام في صفة الايمان 329
75 كلامه في صفة الاسلام 329
76 كلامه عليه السلام صفة الخروج من الايمان 330
77 جوابه عليه السلام في وجوه معائش العباد 331
78 كلامه عليه السلام في وجوه إخراج الأموال وإنفاقها 336
79 رسالته عليه السلام في الغنائم ووجوه الخمس 339
80 احتجاجه عليه السلام على الصوفية لما دخلوا عليه 348
81 كلامه عليه السلام في خلق الانسان وتركيبه 354
82 حكمه عليه السلام ودرر كلامه 356
83 في قصارى كلماته عليه السلام 357
84 ما روى عن أبى إبراهيم الإمام الكاظم عليه السلام 383
85 وصيته عليه السلام لهشام وصفته للعقل 383
86 حكمه عليه السلام ودرر كلامه 403
87 كلامه عليه السلام مع الرشيد 404
88 في قصارى كلماته عليه السلام 408
89 ما روى عن الإمام على بن موسى الرضا عليهما السلام 415
90 جوابه عليه السلام للمأمون في جوامع الشريعة 415
91 كلامه عليه السلام في التوحيد 423
92 كلامه عليه السلام في الاصطفاء 425
93 وصفه عليه السلام الإمامة والإمام ومنزلته 436
94 في قصارى كلماته عليه السلام 442
95 ما روى عن الإمام الناصح الهادي محمد بن على عليهما السلام 451
96 جوابه عليه السلام في محرم قتل صيدا 451
97 جوابه عليه السلام عن مسألة ليحيى بن أكثم 454
98 في قصارى كلماته عليه السلام 455
99 ما روى عن الإمام أبى الحسن على بن محمد عليهما السلام 458
100 رسالته عليه السلام في الرد على أهل الجبر والتفويض 458
101 أجوبته عليه السلام ليحيى بن أكثم عن مسائله 476
102 في قصارى كلماته عليه السلام 481
103 ما روى عن الإمام أبى محمد الحسن بن على العسكري 484
104 كتابه عليه السلام إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري 484
105 في قصارى كلماته عليه السلام 486
106 مناجاة الله عز وجل لموسى بن عمران عليه السلام 490
107 مناجاة الله عز وجل لعيسى ابن مريم عليهما السلام 496
108 مواعظ المسيح عليه السلام في الإنجيل وغيره 501
109 وصية المفضل بن عمر لجماعة الشيعة 513