بداية الحكمة - السيد محمد حسين الطباطبائي - الصفحة ٢٠٩
الفصل السادس في قدرته تعالى قد تقدم (1) أن القدرة: " كون الشئ مصدرا للفعل عن علم " (2)، ومن المعلوم أن الذي ينتهي إليه الموجودات الممكنة هو ذاته المتعالية، إذ لا يبقى وراء الوجود الممكن إلا الوجود الواجبي من غير قيد وشرط، فهو المصدر للجميع، وعلمه عين ذاته التي هي المبدأ لصدور المعاليل الممكنة، فله القدرة، وهي عين ذاته.
فإن قلت: أفعال الانسان الاختيارية مخلوقة لنفس الانسان، لأنها منوطة باختياره، إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولو كانت مخلوقة لله (سبحانه) مقدورة له، كان الانسان مجبرا على الفعل لا مختارا فيه، فأفعال الانسان الاختيارية خارجة عن تعلق القدرة، فالقدرة لا تعم كل شئ.
قلت: ليس معنى كون الفعل اختياريا تساوي نسبته إلى الوجود والعدم حتى حين الصدور، فمن المحال صدور الممكن من غير ترجح وتعين لأحد جانبي وجوده وعدمه، بل الفعل الاختياري لكونه ممكنا في ذاته يحتاج في وجوده إلى علة تامة لا يتخلف عنها، نسبته إليها نسبة الوجوب، وأما نسبته إلى الانسان الذي هو جزء من أجزاء علته التامة فبالإمكان، كسائر الأجزاء التي لها، من المادة القابلة وسائر الشرائط الزمانية والمكانية وغيرها.
فالفعل الاختياري لا يقع إلا واجبا بالغير، كسائر المعلولات، ومن المعلوم أن الوجوب بالغير لا يتحقق إلا بالانتهاء إلى واجب بالذات، ولا واجب بالذات إلا هو (تعالى)، فقدرته (تعالى) عامة حتى للأفعال الاختيارية (3).

(1) في الفصل العاشر من المرحلة الحادية عشرة.
(2) هذا تعريف القدرة عند الحكماء حيث قالوا: " القدرة كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ". وتعريفها عند المتكلمين: " صحة الفعل والترك ". وفيه: أن الصحة هي الإمكان، وواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات. ومن هنا يظهر بطلان ما ادعاه المحقق الخفري من التلازم بين التعريفين.
(3) هذه طريقة طائفة من الحكماء وخواص أصحابنا الإمامية كالمحقق الطوسي في شرح رسالة مسألة العلم، على ما في الأسفار 6: 371.
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 ... » »»