بداية الحكمة - السيد محمد حسين الطباطبائي - الصفحة ٢١٠
ومن طريق آخر (1): الأفعال كغيرها من الممكنات معلولة، وقد تقدم في مرحلة العلة والمعلول: أن وجود المعلول رابط بالنسبة إلى علته (2)، ولا يتحقق وجود رابط إلا بالقيام بمستقل يقومه، ولا مستقل بالذات إلا الواجب بالذات، فهو مبدأ أول لصدور كل معلول متعلق الوجود بعلة، وهو على كل شئ قدير.
فإن قلت: الالتزام بعموم القدرة للأفعال الاختيارية التزام بكونها جبرية، فإن لازمه القول بتعلق الإرادة الإلهية بالفعل الاختياري، وهي لا تتخلف عن المراد، فيكون ضروري الوقوع، ويكون الانسان مجبرا عليه، لا مختارا فيه.
وبوجه آخر: ما وقع من الفعل متعلق لعلمه (تعالى)، فوقوعه ضروري، وإلا عاد علمه جهلا (تعالى عن ذلك)، فالفعل جبري لا اختياري.
قلت: كلا! فالإرادة الإلهية إنما تعلقت بالفعل على ما هو عليه في نفسه، والذي عليه الفعل هو أنه منسوب إلى الانسان الذي هو جزء علته التامة بالإمكان، ولا يتغير بتعلق الإرادة عما هو عليه، فقد تعلقت الإرادة بالفعل من طريق اختيار الانسان، ومراده (تعالى) أن يفعل الانسان الفعل الفلاني باختياره، ومن المحال أن يتخلف مراده (تعالى) عن إرادته.
والجواب عن الاحتجاج بتعلق العلم الأزلي بالفعل كالجواب عن تعلق الإرادة به، فالعلم إنما تعلق بالفعل على ما هو عليه، وهو أنه فعل اختياري يتمكن الانسان منه ومن تركه، ولا يخرج العلم المعلوم عن حقيقته، فلو لم يقع اختياريا كان علمه (تعالى) جهلا.
فإن قلت: السلوك إلى بيان عموم القدرة (3) من طريق توقف وجود المعلول

(1) وهذا الطريق منسوب إلى الراسخين في العلم. راجع الأسفار 6: 372.
(2) راجع الفصل الثالث من المرحلة السابعة.
(3) اعلم أن عموم قدرته مذهب أكثر الحكماء والمتكلمين. وخالفهم في ذلك طوائف:
قال بعض المنجمين: إن الأفلاك والكواكب وأوضاعها مؤثرات مستقلة في حوادث العالم.
وقالت الثنوية: إن فاعل الخير هو (يزدان) وفاعل الشر هو (أهرمن). وقال بعض آخر من الثنوية: فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هو الظلمة.
وقال النظام: إنه (تعالى) لا يقدر على خلق القبيح، لأن فعل القبيح محال، والمحال غير مقدور.
وقال البلخي: انه تعالى لا يقدر على مثل فعل العبد، لأن مقدور العباد إما طاعة أو سفه أو عبث، وذلك على الله محال.
هذا، ولتفصيل البحث عن بطلان هذه الأقوال راجع الكتب المطولة.
(٢١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 215 ... » »»