والملاحظ في هذه الآية المباركة أن الله سبحانه استخدم لفظة الهجر ولم يستخدم مكانها لفظة الترك، ولعل الامر يعود إلى أن الترك يعني التخلي تماما عنهم، بينما الهجر يحمل معه معنى إمكانية الرجوع إليهم والتبليغ فيهم مرة ثانية، ولأجل هذه الاحتمالية يلزم أن يكون الهجر جميلا، لأنهم في حاجة إلى المعاودة والنصح والارشاد الذي لا يتحقق مع تواصل الهجر المستمر بلا انقطاع. ومن هنا يعلم أن رحمة الله عز وجل لا يمكن تصور حدودها، فهي شملت حتى من يسيء إلى مقام الرسل والأنبياء ، أملا أن يصلحوا في مستقبل أيامهم ويعودوا إلى حضيرة الاسلام لينهلوا من آدابه ويتخلقوا بمكارم أخلاقه.
ولا يخفى ما في ذلك من عبرة عظيمة، وموعظة جليلة، إذ يمكن للمسلم الرسالي أن يستثمر الصبر على الأذى والهجر الجميل، ليحصد ما يحمد عقباه.
الآية الخامسة: (ادفع بالتي هي أحسن) ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ (1) في هذه الآية المباركة يتبين لنا حكم الله جل جلاله في المجالين: التكويني والتشريعي، عند التفريق بين الحسن والحسنة من جهة، والسئ والسيئة من جهة أخرى، إذ إن إرادته سبحانه شاءت أن تكون الطبيعة ويكون العقل شاهدين على التفاوت بين الاثنين، وإلا كان الحسن والقبيح على حد سواء، والمحسن والمسئ بمنزلة واحدة، وواقع الحال ليس كذلك، إذ عدم التساوي بين الحسنة والسيئة