الانحرافات الكبرى - سعيد أيوب - الصفحة ٤٧
إلى مقام الملائكة فيكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة ومبرئ من حوائج البشرية ونقائصها فلا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يقع في تعب اكتساب الرزق. فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها ويمتلكها، وقد أخطأتم، فلبس للرسول إلا الرسالة. وإني لست أدعي شيئا من ذلك، فلا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك، وبالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، وإنما أقول فقط: إني على بينة من ربي تصدق رسالتي، وآتاني رحمة من عنده (52).
وبعد أن حطم عليه السلام الوثنية في أساطيرهم، بدأ في تحطيم ميزانهم الذي أقاموه. بدلا من سنة العدل الاجتماعي، وبه قاموا بتصنيف خلق الله فقال: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم...) قال المفسرون: هذا الفصل إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه. وبنوا عليه سنة الأشرافية وطريقة السيادة. وهو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين. الأقوياء والضعفاء، أما الأقوياء فهم أولو الطول المعتضدون بالمال والعدة. وأما الضعفاء فهم الباقون. الأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني، ولهم النعمة والكرامة، ولأجلهم انعقد المجتمع، وغيرهم من الضعفاء... مخلوقون لأجلهم، وبالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع... إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان. وهو داخل المجتمع يشارك في الحياة ليستفيد الشريف من عمله وينتفع من كده، والضعيف في المجتمع محروم من الكرامة، مطرود عن حظيرة الشرافة.. فهذا هو الذي كانوا يرونه، وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم وقد رد نوح عليه السلام ذلك. وبين خطأهم في معتقدهم بقوله: (الله أعلم بما في أنفسهم) أي أن أعينكم إنما تزدريهم وتستحقرهم، وتستهين أمرهم. لما تحس ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هذا الأساس في إحراز الخير ونيل الكرامة، بل الأساس في ذلك أمر النفس وتحليها بحلي الفضيلة، ولا طريق لي ولا لكم إلى العلم ببواطن النفوس وخبايا القلوب، فلله وحده ذلك، وليس لي ولا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير

(52) الميزان: 209 / 10.
(٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 ... » »»
الفهرست