ثم التحقيق إن ذكر العزم إنما هو للتقرير والبيان لا التقييد والاحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لابخ عن ذلك العزم البتة على تقدير الحظور والاقتدار هذا وقد شاع في عرف العوام إطلاق اسم التوبة على الاستئناف وإظهار العزم على ترك المعصية في المستقبل وليس من التوبة في شيء مالم يتحقق الندم والأسف على ما مضى وعلامته طول الحسرة والحزن وانسكاب الدموع ومن نظر في باب التوبة من كتاب الإحياء للإمام حجة الإسلام وتأمل فيما يروى من قصة استغفار داود عليه السلام علم صعوبة أمر التوبة والمعتزلة لما خرجوا بالكبيرة عن الإيمان وجزموا بالدخول بل الخلود في النيران مالم يتوبوا هونوا أمر التوبة حتى اعتقد عوامهم أنه يكفي مجرد قول العاصي تبت ورجعت وخواصهم أنه يكفي أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولا حاجة إلى الأسف والحزن لأن أهل الجنة يندمون على تقصيرهم ولا حزن وإنما الحزن لتوقع الضرر ولا ضرر مع الندم ولأن العاصي مكلف بالتوبة في كل وقت ولا يمكنه تحصيل الغم والحزن فيلزم تكليف مالا يطاق قال وهي واجبة لا نزاع في وجوب التوبة أما عندنا فسمعا لقوله تعالى * (وتوبوا إلى الله جميعا) * * (توبوا إلى الله توبة نصوحا) * ونحو ذلك وأما عند المعتزلة فعقلا لما فيها من دفع ضرر العقاب ولما أن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح وهذا يتناول الصغائر أيضا فيكون حجة على البهشمية القائلين بوجوب التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا لسقوط عقوبتها ثم المصرح في كلام المعتزلة أن وجوب التوبة على الفور حتى يلزمه بتأخير ساعة إثم آخر يجب التوبة عنه وهلم جرا حتى ذكروا أن بتأخير التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة تكون له كبيرتان المعصية وترك التوبة وساعتين أربع الأوليان وترك التوبة عن كل منهما وثلاث ساعات ثمان وهكذا وأما قبول التوبة فلا يجب عندنا إذ لا وجوب على الله تعالى وهل ثبت سمعا ووعدا قال إمام الحرمين نعم بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل وعند المعتزلة يجب حتى قالوا أن العقاب بعد التوبة ظلم لكن بمقتضى الجود على رأي البغدادية وبمقتضى العدل والحكمة على رأي الجمهور واحتجوا بأن العاصي قد بذل وسعه في التلافي فيسقط عقابه كمن بالغ في الاعتذار إلى من أساء إليه سقط ذمه بالضرورة وبأن التكليف باق وهو تعريض للثواب ولا يتصور إلا بسقوط العقاب فوجب أن يكون له مخلص من العقاب وليس غير التوبة فوجب أن يكون مخلصا وأكثر المقدمات مزخرف بل ربما يدعى القطع بأن من أساء إلى غيره وانتهك حرماته ثم جاء معتذرا لا يجب في حكم العقل قبول اعتذاره بل الخيرة إلى ذلك الغير إن شاء صفح وإن شاء جازاه وأما احتجاجنا بالإجماع على الابتهال إلى الله تعالى في وجوب قبول التوبة وعلى وجوب شكره على ذلك فربما يدفع بأن المسؤول هو استجماعها بشرايط القبول فإن الأمر فيه خطير ووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا
(٢٤٢)