إحقاق الحق (الأصل) - الشهيد نور الله التستري - الصفحة ٢٨٥
ولهذا قال عرفناك يا سودة والمراد أن الخروج بالليل أيضا يوجب معرفة الناس وليس هذا كمال الاستتار فينبغي أن يتحرز عن الخروج بالليل أيضا ألا ترى أن الله تعالى أنزل عقيب هذا آية الحجاب وهذا موافقة لعمر وهو من مناقبه ولو لم يكن هذا العمل من عمر مقبولا عند الله لأنزل عقيبه تأنيبا لعمر وتوبيخا له على ما فعل لا أنه ينزل ما يكون تصديقا له وموافقة إياه وهذا ظاهر على غير المتعصب انتهى وأقول الحديث صريح في أن أزواج النبي (ص) إنما كانوا يخرجن إلى المصانع في الليل والغلس الذي لا يعرفن فيه لاختلاط الظلمة وإنما عرف عمر سودة في تلك الليلة بعلامات سمعها ورآها عليها كطول قامتها وضخامة جسمها جدا على ما روى في تفسير سورة الأحزاب من جامع الأصول أو بأخبار نسوانه إياه كما يعرف أحد أمه أو أخته مثلا في ليل مظلم من سماع كلامها أو من أسلوب مشيها أو لباسها إلى غير ذلك ومن البين أن مثل ذلك لا ينافي الغيرة ولا الحياء لأن الليل حجاب وستر في نفسه كما أشرنا إليه فظهر أن غرض عمر من إظهاره لسودة معرفته إياها إنما كان اتهامها وتعليل خروجها بأمر خارج عن الصواب لا لمنافاته بالحجاب كما يدل عليه سوق الخطاب وما رواه ابن حجر في صواعقه من أنه قال زينب لعمر في ذلك هكذا تقول علينا والوحي ينزل في بيوتنا فالظاهر أنه لأجل سد باب مثل تلك الاتهام الصادر عن عمر في ذلك المقام نزلت آية الحجاب لا لأنه رأى التضيق في الحجاب أقرب إلى الصواب ولو كان عمر صاحب مثل هذه الغيرة لمنع امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عن شهود الصلاة جماعة في ضوء النهار وقد روى شهودها الجماعة ابن حزم في كتابه عن الزهري حتى روى أنه طعن وأنها لفي المسجد مع أن الاجماع منعقد على أن شهود النساء الجماعة ليس واجبا وكان نساء النبي (ص) لا يخرجن إلى المسجد وكن تصلين بصلاته عليه السلام في المسجد وكفى في بطلان ما ذكروه من أن غيرة عمر كان أشد من النبي (ص) في ذلك ما روي في المشهور من قوله (ص) إن سعدا لغيور وأراد به سعد بن عبادة وأنا أغير منه والله أغير منا انتهى على أن ما نقله المصنف عنهم ههنا من نزول آية الحجاب بعد ذلك إنما وقع على وفق بعض رواياتهم وإلا ففي رواية أخرى مذكورة في هذا المقام من جامع الأصول ما يخالف ذلك حيث روى أنه لما شكت سودة عن عمر في ذلك أوحى الله تعالى إلى النبي (ص) فقال لها إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن قال هشام أخرجه البخاري ومسلم انتهى قال المصنف رفع الله درجته وفي الجمع بين الصحيحين في مسند جابر بن عبد الله في المتفق عليه قال جابر إن أباه قتل يوم أحد شهيدا فاشتد الغرماء في حقوقهم فأتيت رسول الله (ص) فكلمته فسألهم أن يقبلوا تمر حايطي ويحلوا أبي فلم يوافقه فلم يعطهم رسول الله (ص) ثمر حايطي ولم يكسر لهم ولكن قال سأغدو عليك غدا فغدا علينا رسول الله (ص) حين أصبح فطاف في الحايط ودعا في ثمرها بالبركة فجززتها فقضيتهم حقوقهم وبقي لنا من ثمرنا بقية ثم جئت رسول الله (ص) فأخبرته بذلك قال رسول الله (ص) لعمر وهو جالس اسمع يا عمر فقال عمر إن لا يكن قد علمنا إنك رسول الله (ص) وهذا يدل على أن النبي (ص) كان سئ الرأي فيه ولهذا أمره بالسماع وأجاب عمر بأنا إن لم يك قد علمنا أنك رسول الله (ص) فإنك رسول الله (ص) انتهى وقال الناصب خفضه الله أقول الصحيح في هذا الخبر أن عمر لم يكن حاضرا وقال رسول الله (ص) لجابر أخبر عمر فأخبر جابر عمر فقال نشهد أنه رسول الله (ص) وسر هذا الأمر بالإخبار أن عمر كان سيره ظهور الآيات فأمره بإخباره وإن كان الرواية كما ذكر فهو أيضا في هذا المعنى لا أن عمر كان شاكا في رسالة رسول الله (ص) ولا أن النبي (ص) كان سئ الرأي فيه نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة في حق أصحاب رسول الله (ص) انتهى وأقول ما حكى بصحته خبر ليس له في الصحاح والضعاف عين ولا أثر بل هو مما اخترعه الناصب ترويجا لمرامه فلا يلتفت إليه وأما ما ذكره من أن الرواية إن كان كما ذكر فهو أيضا في هذا المعنى فهو مكابرة على الموضوعات اللغوية ويلزم منه أن يكون جميع ما في الدنيا من العبارات المتخالفة في اللفظ والمعنى معنى واحدا فبقي أن يكون المعنى فيه الطعن على عمر كما هو صريح الحديث وقد فهمه المصنف قدس سره قال المصنف رفع الله درجته وفي الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك قال إن رسول الله (ص) شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه وهذا يدل على سقوط منزلتهما عنده وقد ظهر بذلك كذب من اعتذر عنهما في ترك القتال ببدر وقال إنهما كانا أو أحدهما مع النبي (ص) في العريش يستضئ برأيهما فمن لم يسمع قولهما في ابتدأ الحال كيف يستنير بهما حالة الحرب وقد اعترض أبو هاشم الجبائي فقال أيجوز أن يخالف النبي (ص) فيما يأمر به ثم أجاب فقال أما ما كان على طريق الوحي فليس يجوز مخالفته على وجه من الوجوه وأما ما كان على طريقة الرأي فسبيله فيه سبيل الأئمة في أنه لا يجوز أن يخالف في ذلك حال حياته ويجوز بعد وفاته والدليل على ذلك أنه أمر أسامة بن زيد أن يخرج بأصحابه في الوجه الذي بعثه فيهم فأقام أسامة عليه وقال لم أكن لأسأل عنك الركب وكذلك أبو بكر استرجع عمر ولا كان لأبي بكر استرجاع عمر وهذا قول بتجويز مخالفته النبي (ص) والله تعالى قد أمر بطاعته وحرم مخالفته ثم كيف يجيب بجواز المخالفة بعد الموت لا حال الحياة ويستدل عليه بفعل أسامة وأبي بكر وعمر وحال مخالفتهم إنما كانت في حياة الرسول ولهذا قال أسامة لم أكن لأسئل عنك الركب وهذا يدل على المخالفة في الحياة وبعد الموت فأي وقت يجب القبول منه وكيف يجوز لهؤلاء القوم أن يستدلوا على جواز مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام بفعل أسامة وأبي بكر وعمر انتهى وقال الناصب خفضه الله أقول كان واقعة بدر من غير عزم من رسول الله (ص) على القتال وخرج ليتلقى عير أبي سفيان فلما علم قريش بخروجه خرجوا عازمين على القتال وكان (ص) بايع الأنصار وبايعوه على أن يحموه في المدينة ويدفعوا عنه بما يدفعون به عن عيالهم ولم يبايعوا على أن يقاتلوا معه في أي موقف كان فلما خرج قريش سمع رسول الله (ص) بخبرهم أراد أن ينظر أن الأنصار يوافقونه إن قاتل قريشا أو لا يوافقونه لأنهم لم يبايعوا على الخروج إليهم والمقاتلة معهم فأعرض رسول الله (ص) وكذا عمر قال الرأي الخروج فأعرض رسول الله (ص) وسر الإعراض أنه يريد أن الأنصار يتكلمون في هذا الأمر فإنه كان من المعلوم أن أبا بكر وعمر يوافقونه في القتال والغرض استفسار حال الأنصار ليعلم ما عندهم من الرأي ولهذا لما تكلم مقداد بن الأسود بالكلام الدال على الموافقة اعرض وقال أيها الناس ما لرأي فقام إليه سعد بن معاذ وقال كأنك تريدنا يا رسول الله قال نعم فقال بايعناك ونوافقك في القتال وقال ما قال فسر بذلك رسول الله (ص) وسار إلى قريش هذا سر الإعراض وهذا الرجل أما جاهل بالأخبار أو متجاهل للتعصب نعوذ بالله وهذا الإعراض لهذا الأمر لا لمنع أن يستنير رسول الله (ص) في العريش برأي أبو بكر وحاصل الكلام
(٢٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 280 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 ... » »»