التضحية والفداء، لا من منطق صلة الرحم والقرابة القريبة التي تربطهم بأخيهم فحسب، بل من منطق نصرة الحق ومقاومة الطغيان والباطل في المقام الأول، وقد كان للعباس يومئذ من العمر أربعة وثلاثون سنة، وكان - كما يقول صاحب مقاتل الطالبين - رجلا وسيما يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان في الأرض، وكان يقال له: قمر بني هاشم. وكان لواء الحسين معه يوم قتل، وكان آخر من قتل من إخوته لأمه وأبيه (1).
وقد ضم ديوان بطولات العباس ومواقفه الكريمة الشجاعة في واقعة كربلاء صفحات كثيرة مضيئة لكن أكثرها إضاءة وشهرة مواساته لأخيه الحسين بنفسه. إذ أبى أن يذوق الماء، وقد كان واقفا في لجته وكبده تتلظى من العطش، لأن الحسين وعياله عطاشى لم يذوقوا قطرة منه منذ أيام.
وقد شهد له بهذه المواساة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حينما وقف على قبره وقال: " أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك فنعم الأخ المواسي ".
كما شهد له بها الإمام محمد بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه في الزيارة المعرفة عنه بزيارة الناحية: " السلام على أبي الفضل العباس المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الواقي له، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه ".
وقد روى أصحاب المقاتل في كيفية مصرعه: أنه لم يستطيع صبرا على البقاء بعد استشهاد صحبه وأهل بيته، وطلب الإذن من الحسين عليه السلام، فأمره الحسين عليه السلام أن يطلب الماء للأطفال، فذهب إلى القوم ووعظهم وحذرهم غضب الجبار فلم ينفع، ثم رجع إلي أخيه يخبره، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش، فلم تتطامن نفسه على هذه الحال، وثارت به الحمية الهاشمية وركب جواده وأخذ القربة، فأحاط به أربعة آلاف مقاتل ورموه بالنبال فلم ترعه كثرتهم وأخذ يطردهم، ونزل إلى الفرات مطمئنا، ولما اغترف من الماء