التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٠
وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها 1، والتواصي بها.
واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم 2، وأوهن منتهم 3 من تضاغن القلوب 4، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي... 5.
ويستمر الإمام في تنظيره التاريخي بتقديم أمثلة محددة من حياة الإسرائيليين والعرب، بعدما كان في تنظيره السابق يذكر الأمم بشكل عام، دون أن يخص بالذكر أمة بعينها:
... وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم: كيف كانوا في حال التمحيص 6 والبلاء. ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، وأجهد العباد بلاء 7 وأضيق أهل الدنيا حالا. اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب، وجرعوهم المرار 8، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة...
حتى إذا رأى الله سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته 9، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم في مضايق البلاء فرجا، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكا حكاما، وأئمة أعلاما... فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة 10، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة 11، والسيوف متناحرة، والبصائر نافذة 12، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين،

(1) التحاض، صيغة تفاعل من الحض بمعنى الحث والترغيب، يعني أن يحث بعضكم بعضا على الاتحاد والتعاون.
(2) الفقرة: واحدة فقر الظهر. ويقال لمن اصابته مصيبة شديدة: قد كسرت فقرته. يعني اجتنبوا كل ما أضعف الأمم السابقة وسبب لها الانحطاط.
(3) المنة: القوة، ومعنى الجملة كسابقتها.
(4) تضاغن القلوب وتشاحن الصدور بمعنى واحد: تبادل البغضاء بين فئات المجتمع.
(5) تخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضا ولا يتعاونون في حالات الخطر.
(6) التمحيص: التطهير والتصفية.
(7) أجهد العباد: أكثرهم تعبا.
(8) المرار: شجر مر في الأصل، كناية عما أصابهم من العذاب والهوان على أيدي الفراعنة.
(9) رأى الله منهم جد الصبر، أي أشد الصبر.
(10) الأملاء: الجماعات، الواحد: ملأ، يريد اتحاد الفئات الاجتماعية وتعاونها.
(11) مترادفة: متعاونة.
(12) البصائر نافذة: الإرادة عازمة جازمة غير مترددة للعلم بحقيقة الموقف أو الشئ.
(١١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 ... » »»