إن حركة التاريخ في دوائرها الصغرى تغير الإنسان نحو الأفضل على الصعيد المادي كما يثبت ذلك الواقع التجريبي، ولكنها لا تغيره نحو الأفضل دائما على الصعيد المعنوي والأخلاقي، بل قد تعود به إلى الوراء كما يثبت الواقع التجريبي أيضا، وبالنسبة إلى كثير من مظاهر حضارة عصرنا بشكل خاص.
والمسؤول عن التخلف المعنوي للبشر ليس القدر، إنه إرادة البشر أنفسهم، فإن العالم الأخلاقي لدى الفرد والمجتمع ليس عالما معطى وجاهزا يأخذه الناس كما يستعملون الوصفات الطبية أو المعادلات الرياضية، إنما يتم بناؤه بالمعاناة اليومية للناس مع شهواتهم ورغائبهم الشريرة، ومجاهدتهم لأنفسهم من أجل التغلب عليها. إن العالم الأخلاقي ليس سهل البناء كالعالم المادي التجريبي، لأنه تجاوز الإنسان لنفسه باستمرار نحو إنسانية أغنى وأعلى، ومن هنا فإن العالم الأخلاقي يبني التعامل مع المستحيل، وكأنه ممكن، إنه في التكوين دائما، لأن الإنسان كلما بلغ ذروة جديدة في تكامله المعنوي لاحت لعينيه ذروة أسمى وأعلى.
وإذن، فالبشر، بانتظار أن يتحقق هذا الأمل العظيم، لا يجوز أن يجمدوا وإنما عليهم أن يتحركوا في أطر دوائر التاريخ الصغرى نحو بلوغ ذرى إنسانية جديدة أعلى مما بلغوه في كفاحهم الدائب نحو مزيد من الكمال والنور.
وإذن، فالمسلمون، باعتبار أن هذا الأمل العظيم سيتحقق بإذن الله في نطاقهم بما هم جماعة بشرية عقيدية ومن خلال الإسلام نفسه بما هو دينهم،... المسلمون ينتظرون هذا الأمل العظيم قبل غيرهم من الجماعات العقيدية في المجتمع البشري.
وقد ارتكز في أذهان الكثيرين ممن عالجوا موضوع المهدي والمهدوية أن هذا المعتقد... هذا الأمل العظيم الثابت بمقتضى وعد الله في الكتاب والسنة، والثابت بمقتضى حركة التاريخ الكبرى... أن هذا المعتقد عامل سلبي في حركة التقدم والنمو يعوقها، ويبعث على السكون، ويقعد بالناس عن الحركة والسعي نحو التكامل المادي والمعنوي في انتظار أمل آت ينقذ البشر بالمعجزة، ينقذ البشر بغير جهد البشر.
وربما تكون بعض المظاهر في تاريخ عالم الإسلام تعزز هذا الإتهام ولكن الحقيقة هي أن هذا اللون من الانتظار السلبي المريض دخل على ذهنية الإنسان نتيجة لانتكاس حضاري تسلل إليه من بعض الثقافات الأجنبية عن الإنسان، فشل قدرته على العمل، لأنه شل إرادته وفعاليته وحوله إلى حياة التأمل والقناعة والاستسلام.
أما الحقيقة فهي على خلاف ذلك، إن الانتظار - نتيجة لهذا المعتقد - هو انتظار إيجابي فعال، هو تهيؤ واستعداد، هو كدح دائم ومستمر يجب أن يطبع حركة تاريخ الإنسان المسلم نحو توفير أفضل الشروط التي تهيئ لهذا الأمل العظيم أحسن ظروف النجاح والتحقق.
لقد رأينا أن حركة التاريخ في دوائرها الصغرى لا تتوقف، ونوع هذه الحركة - تقدمية صاعدة أو رجعية هابطة (على صعيد المعنويات والأخلاق) - يتوقف على إرادة البشر أنفسهم، فهم الذين يبنون عالمهم الأخلاقي الأمثل وهو لا يبنى إلا بالعمل الإيجابي الذي يحركه الطموح نحو إنسانية أفضل.
* سلام الله على محمد وآله الطاهرين، وصحبه الذين اتبعوه بإحسان إلى يوم الدين.
وسلام الله على أشهر المؤمنين الإمام علي أمير المؤمنين.
والحمد لله رب العالمين.